6735 - الفضل بْن يحيى بْن خالد البرمكي أخو جعفر، كان رضيع هارون الرشيد، وولاه الرشيد أعمالا جليلة بخراسان وغيرها، وكان أندى كفا من أخيه جعفر، إلا أنه كان فيه كبر شديد، وكان جعفر أطلق وجها، وأظهر بشرا، ولما غضب هارون الرشيد على البرامكة، وقتل جعفرا، خلد الفضل في الحبس مع أبيه يحيى، فلم يزالا محبوسين حتى ماتا في حبسهما.
قرأت على الحسن بْن علي الجوهري، عَنْ أبي عبيد اللَّه المرزباني، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: كان مولد الفضل بْن يحيى لسبع بقين من ذي الحجة، سنة سبع وأربعين ومائة، وأم الفضل زبيدة بنت متين بربرية، مولدة بالمدينة، فأرضعت الخيزران الفضل، وأرضعت زبيدة أم الفضل الرشيد أياما حتى صارا رضيعين، وفي ذلك يقول: مروان بْن أبي حفصة في قصيدة يمدح بها الفضل:
كفى لك فضلا أن أفضل حرة غذتك بثدي والخليفة واحد
لقد زنت يحيى في المشاهد كلها كما زان يحيى خالدا في المشاهد
أَخْبَرَنِي أَبُو القاسم الأزهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إبراهيم، قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحسين بْن هشام، قَالَ: حَدَّثَنِي علي بْن الجهم، عَنْ أبيه، قَالَ: أصبحت ذات يوم وأنا في غاية الخلة والضيقة، ما أهتدي إلى دينار ولا درهم ولا أملك إلا دابة أعجف، وخادما خلقا، فطلبت الخادم، فلم أجده، ثم جاء، فقلت: أين كنت؟ فقال: كنت في احتيال شيء لك، وعلف لدابتك، فوالله ما قدرت عليه، فقلت: أسرج لي دابتي فأسرجها، وركبت، فلما صرت في سوق يحيى، فإذا أنا بموكب عظيم، وإذا الفضل بْن يحيى بْن خالد، فلما بصر بي قال: سر، فسرنا قليلا، وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقا على باب يصيح بجارية، فوقف الفضل طويلا، ثم قَالَ: سر، ثم قَالَ: أتدري ما وقفني؟ قلت: إن رأيت أن تعملني، قَالَ: كانت لأختي جارية، وكنت أحبها حبا شديدا، وأستحي من أختي أن أطلبها منها، ففطنت أختي لذلك، فلما كان في هذا اليوم لبستها وزينتها، وبعثت بها إلي، فما كان في عمرى يوم هو أطيب عندي من يومي هذا، فلما كان في هذا الوقت جاءني رَسُول أمير المؤمنين، فأزعجني، وقطع علي لذتي، فلما صرت إلى هذا المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية، فارتحت لندائه، ووقفت، فقلت: أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري
فقال: اكتب لي هذين البيتين، فعدلت أطلب ورقة أكتب البيتين له فيها فلم أجد، فرهنت خاتمي عند بقال، وأخذت ورقة فكتبتها فيها، وأدركته بها، فقال لي: ارجع إلى منزلك، فرجعت ونزلت، فقال لي الخادم: أعطني خاتمك أرهنه على قوتك اليوم، فقلت: قد رهنته، فما أمسيت حتى بعث إلي بثلاثين ألف درهم جائزة، وعشرة آلاف درهم سلفا لشهرين من رزق أجراه لي.
أَخْبَرَنِي أَبُو القاسم سلامة بْن الحسين الخفاف المقرئ، وأبو طالب عمر بْن مُحَمَّد بْن عُبَيْدَ اللَّه المؤدب، قالا: أَخْبَرَنَا علي بْن عمر الحافظ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن إسماعيل، قَالَ: أخبرنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الله بن الحارث المروزي، قال: أَخْبَرَني هاشم بْن نامجور، قَالَ: مر الفضل بْن يحيى بْن خالد بْن برمك بعمرو بْن جمل التميمي ببلخ، وعمرو في مضربه يطعم الناس، فلم يقف الفضل ولم يسلم عليه، فوجد عمرو في نفسه، فلما نزل الفضل، قَالَ: ينبغي لنا أن نعين عمرًا على مروءته، فبعث إليه بألف ألف درهم.
أَخْبَرَنَا عُبَيْدَ اللَّه بْن عمر بْن أَحْمَد الواعظ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحسن بْن دريد الأزدي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسن بْن خضر، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنِ العتابي، قَالَ: اجتمعنا على باب الفضل بْن يحيى البرمكي بأرمينية أربعة آلاف رجل، يطلب كل بأدب، وشعر، وكتابة، وشفاعة، وكان الزوار يسمون في ذلك العصر السؤال، فقال الفضل لكرمه: سموهم الزوار، فلزمهم هذا الاسم إلى اليوم.
أَخْبَرَنا الجوهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عمران بْن موسى المرزباني، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عيسى المكي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عمر الأخباري، عَنْ جده، قَالَ: كان الفضل بْن يحيى عبسا بسرًا، وكان سخيًا كريمًا، وكان أخوه جعفر بْن يحيى طلقًا بشرًا، وكان بخيلا لا عطاء له، وكان الناس إلى لقاء جعفر أميلُ منهم إلى لقاء الفضل.
وَأَخْبَرَنَا الجوهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا المرزباني، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عيسى المكي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القاسم بْن خلاد، قَالَ: بلغ يحيى بْن خالد أن ابنه الفضل وهب لغلامه الطباخ مائة ألف درهم، فقال له في ذلك، فقال الفضل: إن هذا غلام صحبني، وأنا لا أملك شيئًا، واجتهد في نصيحتي، وقد قَالَ الشاعر:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يؤنسهم في المنزل الخشن
أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم الأزهري، وأبو يعلى أَحْمَد بْن عَبْدِ الواحد، قالا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن جعفر التميمي الكوفي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسن البرذعي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الحسن مصقول، عَنِ العتابي، قَالَ: كنا بباب الفضل بْن يحيى البرمكي أربعة آلاف، ما بين شاعر، وزائر، وفينا فتى يحَدِّثُنَا ونجتمع إليه، فبينا هو ذات يوم قاعدٌ إذ أقبل إليه غلامُ له كأجمل الغلمان، فقال له: يا مولاي أخرجتني من بين أبوي، وزعمت أن لك وصلة بالملوك، فقد صرنا إلى أسوأ ما يكون من الحال، وَقَالَ: إن رأيت أن تأذن لي فأنصرف إلى أبوي فعلت، قَالَ: فاغرورقت عينا الفتى ثم قَالَ: ائتني بدواة وقرطاس، فأتاه بهما فقعد حجزه، يعني ناحية، فكتب رقعة، ثم عاد إلى مجلسه، ثم قَالَ للغلام: انصرف إلى وقت رجوعي إليك، فبينا نحن كذلك إذ جاء رجل يستأذن على الفضل، فقام إليه الفتى، فقال: توصل رقعتي هذه إلى الأمير؟ قَالَ: وما في رقعتك؟ قَالَ: أمدح نفسي وأحث الأمير على قبولي، قَالَ: هذه حاجة لك دون الأمير فإن رأيت أن تعفيني فعلت، قَالَ: قد فعلت، فعاد إلى مجلسه، فخرج الحاجب فقام إليه، فقال له مثل مقالته الأولى، فاستظرفه الحاجب، وَقَالَ: إن رجلا يتصل بمثل الفضل يمدح نفسه لا يمدح الفضل عجيب، فأخذ منه الرقعة ثم دخل فلوحها للفضل، فقرأ منها سطرين وهو مستلق على فراشه، ثم استوى قاعدًا وتناول الرقعة فقرأها، فلما فرغ من الرقعة، قَالَ للحاجب: أين صاحب الرقعة؟ قَالَ: أعز اللَّه الأمير، لا وَاللَّه لا أعرفه لكثرة من بالباب، فقال الفضل: أنا أنبذه لك الساعة، يا غلام اصعد القصر فناد أين مادح نفسه؟ فقام الغلام فصاح، فقام الفتى من بيننا بغير رداء ولا حذاء فلما مثل بين يدي الفضل، قَالَ له: أنت القائل ما فيها، قَالَ: نعم، قَالَ: أنشدني، فأنشأ الفتى يقول
أنا من بغية الأمير وكنز من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب خطيب بليغ ناصح زائد على النصاح
شاعر مفلق أخف من الريشة مما يكون تحت الجناح
ثم أروى عَنِ ابْن هرمة للناس لشعر محبر الإيضاح
لي في النحو فطنة ونفاذ لي فيه قلادة بوشاح
إن رمى بي الأمير أصلحه اللَّه رماحا صدمت حد الرماح
لست بالضخم يا أميري ولا الفدم ولا بالمجحدر الدحداح
لحية سبطة ووجه جميل واتقاد كشعلة المصباح
وظريف الحديث من كل لون وبصير بجائبات ملاح
كم وكم قد خبأت عندي حديثا هو عند الملوك كالتفاح
أيمن الناس طائرا يوم صيد في غدو خرجت أم في رواح
أبصر الناس بالجوارح والخيل وبالخرد الحسان الملاح
كل هذا جمعت والحمد لله على أنني ظريف المزاح
لست بالناسك المشمر ثوبيه ولا الماجن الخليع الوقاح
إن دعاني الأمير عاين مني شمريا كالجلجل الصياح
فقال له الفضل:
كاتب حاسب خطيب أديب ناصح زائد على النصاح
قَالَ: نعم، أصلح اللَّه الأمير، فقال الفضل: يا غلام الكتب التي وردت من فارس، فأتي بها، فقال للفتى: خذها، فاقرأها وأجب عنها، فجلس بين يدي الفضل يكتب، فقال له الحاجب: اعتزل يكن أذهن لك، فقال: ههنا الرأي أجمع، بحيث الرغبة والرهبة، فلما فرغ من الكتب عرضها على الفضل، فكأنما شق عَنْ قلبه.
فقال الفضل: يا غلام بدرة، بدرة، بدرة، فقال الفتى للغلام: أعز اللَّه الأمير دنانير أو دراهم؟ قَالَ: دنانير يا غلام، فلما وضعت البدرة بين يديه، قَالَ الفضل: احملها بارك اللَّه لك فيها، قَالَ الفتى: وَاللَّه أيها الأمير ما أنا بحمال، وما للحمل خلقت، فإن رأى الأمير أن يأمر بعض غلمانه بحملها على أن الغلام لي، فأشار الفضل إلى بعض الغلمان، فأشار الفتى إليه مكانك، فقال: إن رأى الأمير أيده اللَّه، أن يجعل الخيار إلي في الغلمان كما فعل بين البدرتين فعل، فقال: اختر، فاختار أجملهم غلاما، فقال: احمل فلما صارت البدرة على منكب الغلام بكى الفتى، فاستفظع الفضل ذلك، وَقَالَ: ويلك استقلالا؟ قَالَ: لا وَاللَّه أيدك اللَّه، ولقد أكثرت، ولكن أسفا أن الأرض تواري مثلك، قَالَ الفضل: هذا أجود من الأول، يا غلام زده كسوة وحملانا، قَالَ العتابي: فلقد كنت أرى ركاب الفتى تحت ركاب الفضل.
أَخْبَرَنِي الأزهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إبراهيم، قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة، قَالَ: فلم يزل الفضل ويحيى في حبس الرشيد حتى مات يحيى سنة تسعين، ومات الفضل سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم.
قلت: وذكر الصولي أن الفضل مات في شهر رمضان من سنة اثنتين وتسعين ومائة، قبل موت الرشيد بشهور.