نستبعد أن يكون الجاحظ قد حاول الرد على هذا التيار مرتين: مرة بان لا يشغل نفسه بموضوع السرقات كما فعل معاصروه (?) ، ومرة بان يقرر أن الأفضلية للشكل لان المعاني قدر مشترك بين الناس جميعاً. وسبب ثالث قائم في طبيعة الجاحظ نفسه، فقد كان رجلاً خصب القريحة لا يعييه الموضوع ولا يثقل عليه المحتوى أياً كان لونه، ولذا فإنه كان يحس أن المعنى موجود في كل مكان، وما على الأديب إلا أن يتناوله ويصوغه صياغة متفردة. ولم يكن الجاحظ يتصور ان نظريته التي لم تكن تمثل خطراً عليه ستصبح في أيدي رجال البيان خطراً على المقاييس البلاغية والنقدية لأنها ستجعل العناية بالشكل شغلهم الشاغل. وحسبما أن نقرا العسكري الذي ورث هذه النظرية الجاحظية يقول: " ومن الدليل على ان مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعاني فقط، لان الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام وأحكام صنعته ورونق ألفاظه وجودة مطالعه وحسن مقاطعته وبديع مباديه وغريب مبانيه على فضل قائله وفهم منشئه. واكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها ويغلون في ترتيبها ليدلوا على راعتهم وحذقهم بصناعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا اكثر ذلك فربحوا كذاً كثيراً واسقطوا عن أنفسهم تعباً طويلاً " (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015