الغرابة تخلص من السأم الناشئ عن التكرار

وهؤلاء النقاد الثلاثة صورة للذوق الغالب على الأندلس، فمن الواضح أن ابن دحية لم يصنع شيئاً سوى تقييد ما كان طلاب الأدب يعجبون به من أشعار أندلسية على مر الزمن، وربما كانت النماذج التي أوردها الشقندي في رسالته هي أيضاً زاد البيئات الأندلسية في المجالس والحلقات؛ وكلا الرجلين، وخاصة الثاني منهما، سهل على ابن سعيد تناول تلك النماذج؛ وأكبر الظن أن ابن سعيد نفسه وهو الذي جاب الأندلس بصحبة أبيه، كان موجه الخاطر إلى تلك النماذج لا بتأثر من أبيه (الذي كان أكبر موجه له) بل بتأثير من البيئة عامة، وهي بيئة لم يكن ذوقها - من ناحية الأدب - حضرياً وحسب، بل كان قد أصبح " حضرياً متزمتاً " - عن صح التعبير - يطلب تحت وطأة السام جديداً يتعلق به؛ يطلب " الغرابة " وهي إكسير كان يسعى إلى العثور عليه نقاد المشرق منذ زمن بعيد، حين كانوا يحسون بالشبع من تكرار المألوف، ومن تواتر الأشكال المتشابهة، فلا غرابة حينئذ أن يسمي ابن سعيد كتابه الكبير - وهو ميراث عدد من الناس نحوا هذا المنحى - بأم " المغرب ". والغرابة الجدة المصاحبة للابتكار أو الجدة المرافقة لتوليد شيء جديد من أمور لم تعد جديدة، وإذا عثر عليها المتذوق اشتد به الطرب إلى درجة التعبير عنه بالرقص، ولذلك سمى ابن سعيد ما تمتع بالجدة - من حيث الابتكار أو التوليد - باسم " المرقص " وسمى ما دونه مما عليه إثارة من الابتداع لا تبلغ بالمتذوق حد الرقص وإنما تثير في النفس هزة ارتياح ونشوة طرب باسم " المطرب ". ومن الأول ذلك البيت الذي ملك على ابن شهيد - أبي النقد الأندلسي - إعجابه وأسهره حتى استطاع أن يولد منه معنى، وذلك هو قول امرئ القيس:

سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال فليس المرقص هو الشعر القائم على التشبيه بل على " غريب التشبيه " أو غريب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015