نظماً أو نثراًً يفترق الشاعر والمؤرخ، فكتاب هيرودوت قد يصاغ نظماً، ولكنه مع ذلك يظل ضرباً من التاريخ، بيد أنهما يفترقان في أن أحدهما يروي ما حدث والآخر يروي ما يحتمل أن يحدث، وعلى هذا الاعتبار كان الشعر شيئاً أكثر فلسفة وأبدع من التاريخ وأكبر منه قيمة لان الشعر يضطلع بالحقيقة العامة بينما يضطلع التاريخ بالخاصة؛ وأنا اعني بالحقيقة العامة ما يمكن ان يقوله أو يفعله نوع من الناس يتمتع بهذه الصفات أو بتلك - على وجه الاحتمال أو الضرورة - ذلك شيء عام وهو موضوع الشعر حتى حين يطلق أسماء خاصة على من يقولون الحقائق العامة، أما ما فعله الكبيادس أو ما حدث له فذلك حقيقة خاصة " (?) - بينا يقول أرسطو هذا القول على هذا النحو من الوضوح نجد ابن سينا قد حوره فجعل الفرق بين الشعر وبين المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص، ككتاب كليلة ودمنة؛ صحيح إنه فهم أن الوزن - لو نظم كليلة ودمنة - لا يصنع من ذلك الكتاب ما يسمى شعراً، ولكنه عاد إلى ان الشعر يراد به التخييل، وأمثال كليلة ودمنة يراد بها إفادة الآراء، دون ان يقصر حديثه كما قصره أرسطو في هذا المقام على الفرق بين شيء يتناول الأحداث الجزئية " فأحد هذين يتكلم فيما وجد ويوجد والآخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط " (?) . أما لماذا اختار ابن سينا كتاب كليلة ودمنة ولم يجر المقارنة بين الشعر والتاريخ فلهذا أسباب: أولها أن كلمة historia نفسها قد ذهبت به إلى معناها الاشتقاقي (أسطورة) ، وثانيها أنه لم يتعود في المفهومات المشرقية إيراد صلة بين الشعر والتاريخ، وثالثها وهو الأهم: أن كتاب كليلة ودمنة كان قد نظمه ابن الهبارية، فهو يريد ان يثبت ان الوزن وحده لا يصنع منه شعراً، كما يقول أرسطو، فهو أوضح " نموذج " متوفر لديه، مما يحكي " قصة " في شكل شعري؛ وفي هذا دلالة أخرى على قيمة الأنموذج نفسه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015