كلاهما خارج عن عمود الشعر أو ملتزم به؟ لما كان الجواب عن ذلك قاطعاً حاسماً: فأبو تمام في المبنى من الفريق الثالث، وفي المعنى من أصحاب المعاني، ولكن استعارته أحياناً لا تناسب فيها بين المستعار والمستعار له، وفي بعض ألفاظه إذا عرضت على الطبع والرواية والاستعمال هجنة، وكثير من العناصر الأخرى المشترطة في عمود الشعر متوفر لديه، ولذا فلا يمكننا أن نقول إن أبا تمام خرج عن عمود الشعر إطلاقاً، وإنما يمكننا أن نقول إنه في بعض أبياته فعل ذلك، ومثل ذلك قد يقال في أبي نواس وفي مسلم والبحتري والمتنبي، لا خلاف في ذلك، إذ أن المرزوقي لم يقل لنا: إن العرب يشترطون اجتماع هذه العناصر كلها معاً دون هوادة، بل قال " ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان " (?) فإذا اجتمعت كلها - وهذا أمر عسير - كان الشاعر محسناً مقدماً.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول إن نظرية " عمود الشعر " رحبة الأكناف واسعة الجنبات، وأنه لا يخرج من نطاقها شاعر عربي أبداً، وإنما تخرج قصيدة لشاعر أو أبيات في كل قصيدة، وقد أساء الناس فهم هذه النظرية وحملوها من السيئات الشيء الكثير، ولكنها أساس " كلاسيكي " رصين، فالثورة عليها لا تكون إلا على أساس رفض الشعر العربي جملة.
بل أن المرزوقي زاد من أتساع هذه النظرية حين جعلها ذات وسط وطرفين، فإما أن يعمد الشاعر إلى تحقيق هذه العناصر عن طريق الصدق، وإما أن يذهب مذهب الغلو، وإما أن يكون مقتصداً بين بين، ولكل جانب أنصاره الذين يؤثرونه، وإذا كان النقاد قبل المرزوقي قد انقسموا في فئتين: فئة تقول: أحسن الشعر أكذبه، وفئة تقول: أحسن الشعر أصدقه، فإنه قد زاد فئة ثالثة تقول: " أحسن الشعر أقصده ".