لا يظن أنه يظفر به كمن يعثر بمألوفه على غفلة من تأميله، والبديهة قدرة روحانية في جبلة بشرية. كما أن الروية صورة بشرية في جبلة روحانية؛ وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج لغموضها إلى التدبر والتصفح وهذان يفيدان من المسموع وجوهاً مختلفة كثيرة نافعة. وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عز وجل وكلام رسوله؟ ولقد فقدت هذه البلاغة لفقد الروح كله، وبطل الاستنباط أوله وآخره، وجولان النفس واعتصار الفكر إنما يكونان بهذا النمط في أعماق هذا الفن، وها هنا تنثال الفوائد وتكثر العجائب. وتتلاقح الخواطر، وتتلاحق الهمم، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممثلة حتى تكون معينة ورافدة في إثارة المعنى المدفون وإنارة المراد المخزون " (?) .
نقد لرأي أبي سليمان
وواضح أن أبا سليمان المنطقي غير منطقي في هذه القسمة، لأنه ينظر من زوايا مختلفة، فحيناً ينظر إلى النوع فيقسم الكلام إلى شعر ونثر. ثم ينظر إلى النثر نفسه بحسب اختلاف وجوهه فيقسمه إلى خطابة ونثر ومثل. ثم يتحدث عن المحتوى المعنوي ويسميه بلاغة العقل، ثم ينظر إلى طبيعة الإبداع نفسه فيعد شيئاً يسميه " بلاغة البديهة "، ثم يقف وقفة طويلة عند نوع من النثر يتحمل أوجههاً من التأويل، ويفرده بالأهمية. ويرى ان سائر فنون البلاغة إنما تكون في خدمته. وتكاد بلاغة الشعر والخطابة والنثر تتفق في اللفظ عنده. ثم تختلف في بعض الجزئيات، فالوضوح في المبنى الشعري يقابله الإشارة واللمح في الخطابة والإيجاز الشديد في المثل، والسهولة في المبنى النثري. فأما الحديث عن بلاغة العقل والبديهة والتأويل، فليس حديثاً عن الشكل وإنما هو حديث عن المضمون، والمضمون شركة بين فنون القول؛ ولكن من تدبر ما قاله المنطقي وجده يحوم حول تفضيل المعنى، الذي يتطلب