مكة صفة القداسة، تلك الصبغة التي كانت من أبرز العوامل في ازدهارها وارتفاع شأنها. والمؤرخ اليوم عاجز عن إعطاء معلومات مفصلة -غير ما ورد من موجز عنها في القرآن- تتصف بالدقة العلمية عن تاريخ يرجع بمكة إلى أكثر من قرن وبعض القرن قبل الهجرة, وعلى رأي بعض المؤرخين أن تاريخ مكة الحقيقي إنما يبدأ من عهد قصي بن كلاب الجد الأكبر للرسول -صلى الله عليه وسلم- أي: منتصف القرن الخامس الميلادي1 حسب تقدير بعضهم، وأوائل القرن السادس الميلادي حسب تقدير آخرين.

ذلك أن حياة مكة قد قامت على التجارة، إذ كان لموقعها أهمية تجارية عظيمة، فهي نقطة التقاء لطرق عديدة تأتيها من جميع الجهات، من اليمن، ومن الخليج العربي، ومن الحبشة عن طريق البحر الأحمر، ومن مصر وفلسطين وسورية. وليس من المعلوم على وجه التحقيق متى كان منشؤها، إنما الراجح أن موقعها المهم على طريق القوافل التجارية قد جعل منها، من غابر الزمن، محطة يقيم فيها رجال القوافل أيامًا؛ بسبب إمكان العثور على ماء للشرب فيها، الأمر الذي دعا إلى ارتفاع شأنها، وإلى تحولها من محطة تجارية إلى مدينة زاهرة، لا سيما بعد أن أقيم فيها بيت عبادة.

والواقع أن عوامل كثيرة أدت إلى تحويل مجرى التاريخ في شبه جزيرة العرب من البتراء وتدمر، ونجد إلى الحجاز.

فقد تحولت الطرق التجارية من جديد إلى البحر الأحمر، منذ أن استولى الرومان على سورية ومصر، قبيل مستهل النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وسيطروا على تجارة هذا البحر من خليجي العقبة والسويس، بعد أن قضوا على دولة الأنباط وجعلوا محطتها التجارية تحت سيطرتهم، وعلى الدولة التدمرية إذ دمروها، فقضوا بذلك على حياتها التجارية. عندئذٍ بدأت سفن الرومان التجارية تمخر عباب البحر الأحمر في طريقها إلى الشرق الأقصى، وتمر بالثغور الحجازية في ذهابها وإيابها، ولم تفقد المحطات التجارية البرية ومنها مكة أهميتها، بل ازداد نشاطها، بعد أن انحطت دول الجنوب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015