أما بعد، فإن الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، خلق خلقه من غير ضرورة كانت به إلى خلقهم، وأنشأهم من غير حاجة كانت به إلى إنشائهم، بل خلق من خصه منهم بامره ونهيه، وامتحنه بعبادته، ليعبدوه فيجود عليهم بنعمه، وليحمدوه على نعمه فيزيدهم من فضله ومننه، ويسبغ عليهم فضله وطوله، كما قال عز وجل: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» .
فلم يزده خلقه إياهم- إذ خلقهم- في سلطانه على ما لم يزل قبل خلقه إياهم مثقال ذرة، ولا هو إن أفناهم واعدمهم ينقصه افناؤه إياهم ميزان شعره، لأنه لا تغيره الأحوال، ولا يدخله الملال، ولا ينقص سلطانه الأيام والليال، لأنه خالق الدهور والأزمان، فعم جميعهم في العاجل فضله وجوده، وشملهم كرمه وطوله، فجعل لهم أسماعا وأبصارا وأفئدة، وخصهم بعقول يصلون بها الى التمييز بين الحق والباطل، ويعرفون بها المنافع والمضار، وجعل لهم الأرض بساطا ليسلكوا منها سبلا فجاجا، والسماء سقفا محفوظا، وبناء مسموكا، وأنزل لهم منها الغيث بالإدرار، والأرزاق بالمقدار، واجرى لهم فيها قمر الليل وشمس النهار يتعاقبان بمصالحهم دائبين، فجعل لهم الليل لباسا، والنهار معاشا، وخالف- منًّا مِنْه عليهم وتطولا- بين قمر الليل وشمس النهار، فمحا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، كما قال جل جلاله وتقدست أسماؤه: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا