وانحسر عن أنحاء العالم الإسلامي لولا ما خص الله به الجزيرة العربية من الاستمساك بالشريعة الإسلامية.
أما أحكام العلاقات المدنية: كالبيوع والإجارة، والضمان، والكفالة، والخوالة، والرهن، والأمانات، والودائع، والهبة، والغصب، والإتلاف، والحجر، والشفعة، والشركات، وما يتبع ذلك؛ فقد ظلت الدولة العثمانية تطبق فيه الفقه الإسلامي على المذهب الحنفي وإن كانت قد نظمت ذلك فيما يسمى "مجلة الأحكام الشرعية" وأخذت البلاد التابعة للدولة العثمانية بأحكام المجلة.
أما مصر التي كانت قد انفصلت عن الخلافة العثمانية؛ فقد استنكف حاكمها الخديوي إسماعيل باشا عن تطبيق المجلة الشرعية، وترجم القانون المدني الفرنسي الأول "قانون نابليون" وطبقة في بلاده، وكان هذا بداية التقنين الوضعي في أحكام المعاملات، وما كان الشعب المصري المسلم ليقبل هذا بسهولة، لولا أن الخديوي استخدم بعض العلماء1 في الكتابة عن ذلك، لبيان أن هذا القانون مستمد من مذهب الإمام مالك.
والحق أن هذه تكأة باطلة، يحاول أصحابها أن يعطوا القانون الوضعي صفة شرعية؛ فإن الحضارة الغربية- وإن كانت قد تأثرت بالحضارة الإسلامية إلا أنها كيفتها بما يتفق مع فلسفتها عن الحياة ومفاهيمها العامة، التي تختلف عن فلسفة الإسلام ومفاهيمه؛ فلا يقال: إن القانون الوضعي مستمد من الفقه الإسلامي، فهو غربي الفكرة والروح، والفقه الإسلامي في أصالته غني عن أن تنسب إليه هذا اللقيط، والتوافق في بعض الأحكام لا يعنى أن هذا هو فقه الإسلام.
وحين زحف الاستعمار الغربي على العالم الإسلامي بعد أن مزق باقي أوصالهن زحفت معه القوانين الوضعية، وسادت أحكام القانون المدني الغربي، حتى في تركيا التي انسلخ قادتها من حضارة الإسلام، وتقمصوا الحضارة الغربية.