على سمو نفسه، وذكائه، وعلو همته، ونمو مواهبه، وتعرفه على أحوال مجتمعه.
وكانت بغداد التي نشأ فيها أحمد حاضرة العالم الإسلامي، ومهدا للعلوم المختلفة الشرعية، واللغوية، والعقلية، تموج بأنواع المعارف والفنون، وتزخر بالمشارب المختلفة، والأفكار المتباينة، وقد اختارت أسرة أحمد له منذ صباه، أن يتجه لخدمة الدين، فحفظ القرآن وتزود من علوم العربية، وظهرت ألمعيته وعرف بين أقرانه ورفاقه بالتقوى والاستقامة، وحسن الخلق، ولما شب عن الطوق وجد أمامه في بغداد منهجين لطلب الشريعة، أحدهما: منهج الفقه، والآخر: منهج الحديث، فراد طريق الفقهاء باديء ذي بدء على مذهب أهل الرأي، وأخذ عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ثم مال من بعد إلى طريق المحدثين، وانصرف إلى الحديث، وإن لم ينقطع انقطاعا كاملا عن الفقه.
قال الخلال في تاريخ الحافظ الذهبي: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها، ثم لم يلتفت إليها.
وقد أخذ الحديث عن علماء في الأمصار كلها في العراق، والشام، والحجاز، ومسنده على أنه جمع الحديث جمعا متناسبا من هذه الأمصار، وبدأ من ذلك بالأخذ عن شيوخ الحديث في بغداد، ثم رحل إلى البصرة، والكوفة، والحجاز، واليمن، منذ سنة 186هـ وهكذا يبدأ الناشئ علمه بالتلقي عن أهل بلده، فلازم في بغداد إماما من أئمة الحديث، هو: هشيم بن بشير "أبي حازم الواسطي" المتوفى سنة 183هـ، روى عنه ابنه صالح، كما في "المناقب" لابن الجوزي فقال: كتبت عن هشيم سنة تسع وسبعين، ولزمناه إلى سنة ثمانين، وإحدى وثمانين، واثنتين وثمانين، ومات في سنة ثلاث وثمانين، كتبنا عنه كتاب الحج: نحوا من ألف حديث، وبعض التفسير، وكتاب القضاء وكتبا صغارا، وسأله ابنه صالح بعد ذلك القول: يكون ثلاثة آلاف؟ قال: أكثر.
وبعد موت هشيم، تلقى أحمد الحديث من سائر شيوخ بغداد، حتى بلغ العشرين عاما، ثم بدأ في رحلاته المتوالية لتلقي الحديث من رجاله شفاها، فرحل