التشريع في المدينة:

كان حادث الهجرة فاصلًا بين عهدين في تاريخ الإسلام، حيث استقرت العقيدة الإسلامية في نفوس نفر من المهاجرين وأصحاب البيعة من الأنصار، وتكونت النواة الأولى للمجتمع الإسلامي، واتخذت المدينة مستقرا لها، فبدأت الدعوة في طور عملي تنظيمي جديد، واتجه التشريع إلى بناء الأمة وتحديد علاقاتها الاجتماعية، وكانت اللبنة التي بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء هذا المجتمع الجديد أن آخى بين المهاجرين والأنصار، حيث كان الأنصاري يؤثر أخاه المهاجري على نفسه:

{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1.

وكانت المدينة بعد الهجرة تضم طوائف شتى:

تضم المهاجرين الذين هاجروا من مكة، وخلفوا وراءهم سائر عشيرتهم من المشركين.

وتضم الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه ونصروه من الأوس والخزرج، وبين الأوس الأوس والخزرج معارك قديمة طاحنة تحز آثارها الدامية في النفوس.

وتضم جماعة من مرضى النفوس، الذين أظهروا الخضوع للإسلام انقيادًا لسطوة الدين الجديد، واستبطنوا الكفر والعداء لهذا الدين، وهم المنافقون.

وتضم اليهود الذين أقاموا بيثرب منذ زمن، وقرأوا الكتب المقدسة، ورأوا فيها البشارة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فعز عليهم بعد بعثه أن يذعنوا إليه، إبقاء على سلطانهم الديني، واستعلاء في الأرض {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 2.

وقد اتجه التشريع المدني إلى مواجهة هذه العناصر بما يلائمها.

فاتخذ رباط العقيدة بين المؤمنين بالدين الجديد مهاجرين وأنصارا، أساسا لرباط الأمة الإسلامية، يحل محل رباط الدم في حياة القبيلة، وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من العصبية وجعلها من دعوى الجاهلية: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من مات على عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية" 3، وقال فيها تلك العبارة المنفرة: "دعوها فإنها منتنة" 4.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015