أما المذهب الأول ويتزعمه ابن عباس فيرى أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم نزل ذلك مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفق الحوادث والمقتضيات مدة البعثة، وعلى هذا فلا تنافي بين الآيات والواقع، فالآيات أخبرت عن نزول القرآن جملة، ولم تخبر عن نزوله تفصيلا، فعن ابن عباس وغيره "أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
أما المذهب الثاني ويتزعمه الشعبي، فيرى أن أول ما بدئ به الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في شهر رمضان في الليلة المباركة "ليلة القدر"، ثم نزل القرآن الكريم تباعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية حياته. وعلى هذا فالآيات الثلاث أخبرت عن بدء نزول القرآن لا عن نزوله كله. ولا يتعارض هذا المعنى مع الواقع.
وأنت ترى من خلال هذين المذهبين أن مذهب ابن عباس لا يعطي لشهر رمضان مزية خاصة ذات صلة مباشرة بالأمة المحمدية؛ إذ كان المراد نزول القرآن إلى السماء الدنيا لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر منة الله على هذه الأمة في شهر رمضان بهذا الفضل، والأقرب في ظهور المنة والفضل ما ذهب إليه الشعبي من بدء النزول في رمضان في ليلة القدر1، وقد ذهب ابن إسحاق إلى أنها ليلة السابع عشر من الشهر، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} 2. والمراد بيوم التقاء الجمعين يوم التقاء المسلمين والمشركين ببدر، وهو يوم الجمعة 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة، ويوم الفرقان هو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القرآن، وهما متحدان في الوصف، ويوافقان 17 رمضان وإن لم