اللّيل ثلاثُ ساعات، إذ أقبلَ باغر ومعه عشرة نفر من الأتراك تبرق أسيافهم فهجموا علينا، وقصدوا المتوكّل. وصعِد منهم واحدٌ إلى السّرير، فصاح الفتح: ويلكم مولاكم. وتهارب الغلْمان والْجُلَساء والنُّدَماء على وجوههم، وبقي الفتح وحده، فما رَأَيْت أقوى نَفْسًا منه، بقي يمانعهم، فسمعتُ صيحة المتوكّل وقد ضربه باغَر بالسّيف المذكور على عاتقه، فَقَدَّه إلى خاصِرته، وضربه آخرٌ بالسّيف، فأخرجه من ظهره، وهو صابر لا يزول، ثُمَّ طرح نفسه على المتوكّل، فماتا فلُفّا فِي بساطٍ، وطُرِحا ناحية، فلم يزالا فِي ليلتهما وعامّة النهار، ثُمَّ دُفِنا معًا.
وكان بُغا الصغير قد استوحش من المتوكّل لكلامٍ لَحِقَه منه. وكان المنتصر يتألف الأتراك لا سيّما مَن يبعده أَبُوهُ1.
قال المسعوديّ: ونُقِل فِي قِتْلته غير ما ذكرنا.
قال: وأنفق المتوكّل على الهارونيّ والْجَوْسَق والْجَعْفَريّ أكثر من مائتي ألف ألف دِرهم.
ويقال: إنه كان له أربعة آلاف سرية وطئ الجميع؛ ومات وفي بيت المال أربعة آلاف ألف دينار، وسبعة آلاف دِرهم. ولا يُعلمُ أحدٌ متقدّم فِي جِدٍّ أو هَزْل إلا وقد حظي بدولته، ووصل إليه نصيب وافرٌ مِن المال2.
ذكر محمد بْن أبي عَوْن قال: حضرت مجلس المتوكّل وعنده محمد بْن عبد الله بْن طاهر، فغمز المتوكّل مملوكًا مليحًا أن يسقى الْحُسَيْن بْن الضّحّاك الخليع كأسًا ويحييه بتُفّاحة عنبر. فأنشأ الخليع يقول:
وكالدرة البيضاء حيا بعنبر ... من الورد يسعى قرائط كالوردِ
له عَبَثاتٌ عند كلّ تحيّة ... بعينيه تستدعي الخَليَّ إلى الوجْدِ
تمّنيتُ أن أُسْقَى بكفّيه شُرْبةً ... تُذَكّرُني ما قد نسِيتُ من العهد
سقى اللَّه دَهْرًا لم أبِتْ فِيهِ ساعةً ... من الدَّهْرِ إلا من حبيبٍ على وعد