فَأَرْسَلَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءُوا وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا دِينُكُمْ؟ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرٌ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنَ الْحِجَارَةِ، وَأَمَرَنَا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ، فعدا علينا قومنا فعذّبونا، وفتنونان عَنْ دِينِنَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، فَخَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَالَتْ: قَالَ: وَهَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ {كهيعص} 1 فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ، حَتَّى اخْضَلَّ لِحْيَتُهُ2، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ، حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَلَا وَاللَّهِ لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا وَلَا يُكَادُ.
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، قَالَ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ، ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَطَلَبَنَا، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ فِي عيسى بن مَرْيَمَ إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ، وَاللَّهِ، مَا قَالَ اللَّهُ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا كَانَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ عُودًا ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، فتناحرت بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ، وَاللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي، وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ، رُدُّوا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ، قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مردودًا عليهما ما جاءا به.