ورعًا، زاهدًا، عالمًا، قوي اليقين بالله، كثير الصدقة والصبر، له عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، ولم يكن يرضى أكثر ما يكتب من الديوان، وكان يصلح فِيهِ أشياء، وكان مؤثرًا للعدل والإحسان وقضاء الحوائج، ولا يرى المنع من شيءٍ يطلب منه.
قال: وكان سبب موته مأشرا فافتصد ونام، فانفجر فصاده وخرج منه دم كثير، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوته، فأيقن بالموت، وطلب ولي العهد ووصاه، ثُمَّ توفِّي -رحمه اللَّه.
وحكى الْحَسَن بْن مُحَمَّد القيلوي فِي "تاريخه" قال: ولما رجع الخليفة إِلَى داره -يعني: نوبة البساسيري- لم يتجرَّد من ثيابه للنوم إِلَى أن مات، ولا نام على فراش غير مصلَّاه، وكان يصوم -فيما حُكِيَ عَنْه- أكثر الزمان، ويقوم الليل، وعفا عن كل من عرفه بفساد وأحسن إليه، ومنع من أذية من أذاه.
قال السلفي: حَدَّثَنِي عَبْد السلام بْن على القيسراني المعدل بمصر، قال: حَدَّثَنِي شيوخ بغداد أن القائم لم يسترد شيئًا مما نهب من قصره إلا بالثمن، ويقول: هَذِهِ أشياء احتسبناها عند اللَّه، وأنه منذ خرج من مقرِّ عزه ما وضع رأسه على مخدة. وحين نهبوا قصره لم يجدوا فِيهِ شيئًا من آلات الملاهي.
قال الخطيب فِي تاريخه: ولم يزل أمره مستقيمًا إِلَى أن قبض عليه فِي سنة خمسين، وكان السبب فِي ذلك أن أرسلان التركي البساسيري كان قد عظم أمره واستفحل شأنه، لعدم نُظرائه، وانتشر ذِكره، وتهيَّبته أمراء العرب والعجم، ودُعي له عَلَى المنابر، وجُبِي لَهُ الأموال، وخرَّب القُرى، ولم يكن القائم يقطع أمرًا دونه، ثُمَّ صحَّ عنده سوء عقيدته، وشهد عنده جماعة أن البساسيري عرَّفهم وهو باسط عزْمه على نْهب دار الخلافة، والقبض على أمير المؤمنين، فكاتب الخليفة أَبَا طَالِب مُحَمَّد بْن ميكال سلطان الغُزّ المعروف بطُغْرُلْبَك، وهو بالرِّيّ، يستنهضه فِي القدوم، ثُمَّ أُحرقت دار البساسيري.
وقَدِمَ طُغْرُلْبَك فِي سنة سبعٍ وأربعين، فَذَهب البساسيري إِلَى الرحْبة، وتلاحق به خلْق من الأتراك، وكاتَبَ صاحب مصر، فأمدّه بالأموال.
ثُمَّ خرج طُغْرُلْبَك بعد سنتين إِلَى نصيبين، ومعه أخوه ينال فِي سنة خمسين، فخالف عليه أخوه، وسار بجيش عظيم وطلب الريّ، وكان البساسيري قد كاتبه