إليه زعامةُ الشّافعيّة بعد أبيه، فأجراها أحسن مَجْرى، ووقعت في أيّامه وقائع ومحَن للَأصحاب، وكان يقيم رسْم التَّدريس، لكنَّهُ كان رئيسًا ديّنًا ذكيّا صيِّنًا قليل الكلام.
وُلِدَ سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.
وسمع من مشايخ وقته بخُراسان، والعراق، مثل النصْروبي، وأبي حسَّان المزكّيّ، وأبي حفص بن سرور.
وكان بيتهم مجمع العلماء ومُلتقى الأئِمّة، فَتُوُفّي أبوه سنة أربعين، فاحتفَّ به الأصحاب، وراعوا فيه حقَّ والده، وقدّموه للرئاسة. وقام أبو القاسم القُشيْريّ في تهيئة أسبابه، واستدعى الكُلّ إلى متابعته، وطلب من السُّلطان ذلك فأُجيب، وأرسل إليه الخِلع، ولقّب بأبيه جمال الْإِسلام، وصار ذا رأيٍ وشجاعة ودهاء، فظهر له القَبول عند الخاصّ والعامّ، حتّى حسده الأكابر وخاصموه، فكان يخصمهم ويتسلَّط عليهم، فبدا له خُصُوم، واستظهروا بالسُّلطان عليه وعلى أصحابه، وصارت الأشعريَّة مقصودين بالْإِهانة والطَّرْد والنَّفْيّ، والمنع عن الوعظ والتَّدريس، وعُزلوا عن خطابة الجامع.
ونبغ من الحنفيّة طائفة شربوا في قلوبهم الاعتزال والتَّشَيُّع، فخيَّلوا إلى وليّ الأمر الْإِزراء بمذهب الشَّافعيّ عمومًا، وتخصيص الأشعريَّة، حتّى أدَّى الأمر إلى توظيف اللعنة عليهم في الجُمع، وامتدَّ الأمر إلى تعميم الطَّوائِف باللعن في الخُطَب.
واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل أبلغ قيامٍ، وتردّدَ إلى العسكر في دفع ذلك، إلى أن ورد الأمر بالقبض على الرّئيس الفُرَاتيّ، والقُشَيْرِيّ، وأبي المعالي بن الْجُوَيْنيّ، وأبي سهل بن الموفّق، ونَفْيهم ومنْعهم عن المحافل، وكان أبو سهل غائبًا إلى بعض النَّواحي، ولمَّا قُرئ الكِتاب بنفْيهم أُغرى بهم الغاغة والَأوباش، فأخذوا بأبي القاسم القُشيري والفُراتي يجُرونهُما ويستَخِفّون بهما، وحُبسا بالقُهُندر.
وكان ابن الْجُوَيْنيّ أحسّ بالَأمر، فاختفى وخرج على طريق كرْمان إلى الحجاز، وبقيا في السّجن مُفتَرِقين أكثر من شهر، فتهيَّأ أبو سهل من ناحية باخَرْز، وجمع من شاكريّته وأعوانه رجالًا عارفين بالحرب، وأتى بابن البلد، وطلب تسريح الفُرَاتيّ والقُشيري، فما أُجيب، بل هُدِّد بالقبض عليه، فما التفت، وعزم على دخول البلد ليلًا، والاشتغال بإخراجهما مُجاهرة ومُحاربة.