-بِنَاءُ بَغْدَادَ.

فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُسِّسَتْ مَدِينَةُ السَّلامِ بَغْدَادُ، وَهِيَ الَّتِي تُدْعَى مَدِينَةُ الْمَنْصُورِ. سَارَ الْمَنْصُورُ يَطْلُبُ مَوْضِعًا يَتَّخِذُهُ بَلَدًا، فَبَاتَ لَيْلَةً، وَكَانَ فِي مَوْضِعِ الْقَصْرِ بَيْعَةُ قِسٍّ، فَطَابَ لَهُ الْمَبِيتُ، وَأَقَامَ يَوْمًا فَلَمْ ير إلا ما يحب، فقال: ها هنا ابْنُوا فَإِنَّهُ طَيِّبٌ، وَتَأْتِيهِ مَادَّةُ الْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَالأَنْهَارِ، فَخَطَّ بَغْدَادَ، وَوَضَعَ أَوَّلَ لَبِنَةٍ بِيَدِهِ فقال: باسم اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، ابْنُوا عَلَى بَرَكَةِ الله، وذلك بعد أن بعث رِجَالا لَهُمْ فَضْلٌ يَتَطَلَّبونِ مَوْضِعًا، ثُمَّ -[792]- وَقَعَ الاخْتِيَارُ عَلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ، وَسَأَلَ رَاهِبًا هُنَاكَ عَنْ أَمْرِ الأَرْضِ وَصِحَّتِهَا وَقَالَ: هَلْ تجدون في كتبكم أنه يبنى ها هنا مَدِينَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَبْنِيهَا مِقْلاصٌ، قَالَ: فَأَنَا كنت أدعى بذلك، وكذلك لما بنى مدينة الرَّافِقَةُ قَالَ لَهُ رَاهِبٌ: إِنَّ إِنْسَانًا يَبْنِي هُنَا مَدِينَةً يُقَالُ لَهُ مِقْلاصٌ، قَالَ: أَنَا هُوَ، فَبَنَاهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ بَغْدَادَ، لَكِنَّهَا أَصْغَرُ.

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُجَالِدٍ قَالَ: أَحْضَرَ الْمَنْصُورُ الصُّنَّاعَ وَالْفَعَلَةَ مِنَ الْبِلادِ، وَأَحْضَرَ الْمُهَنْدِسِينَ، وَالْحُكَمَاءَ وَالْعُلَمَاءَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَحْضَرَ حَجَّاجَ بْنَ أَرْطَأَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَرُسِمَتْ لَهُ بِالرَّمَادِ، بِسُورِهَا، وَأَبْوَابِهَا، وَأَسْوَاقِهَا، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ عَلَى ذَلِكَ الرَّسْمِ.

وَرَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّاهِبِ: أُرِيدُ أَنْ أَبْنِي هُنَا مَدِينَةً، فَقَالَ: إِنَّمَا يَبْنِيهَا مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الدَّوَانِيقِ، فَضَحِكَ وَقَالَ: أَنَا هُوَ، وَاخْتَطَّهَا، وَوَكَّلَ بِهَا أَرْبَعَةَ قُوَّادٍ، وَوَلَّى أَبَا حَنِيفَةَ الْقِيَامَ بِعَمَلِ الآجُرِّ.

وَقِيلَ: كَمُلَ سُورُهَا فِي أَرْبَعِ سِنِينَ. وَكَانَتِ الْبُقْعَةُ مَزْرَعَةً تُدْعَى الْمُبَارَكَةُ، لِسِتِّينَ نَفْسًا، فَعَوَّضَهُمُ الْمَنْصُورُ وَأَعْطَاهُمْ فَأَرْضَاهُمْ، وَجَدُّوا فِي الْبِنَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ فِتْنَةِ ابْنِ حَسَنٍ.

وَقِيلَ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مَدِينَةٌ مُدَوَّرَةٌ سِوَاهَا، عَمَلَ فِي وَسَطِهَا دَارَ الْمَمْلَكَةِ بِحَيْثُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي قَصْرِهِ كَانَ جَمِيعُ أَطْرَافِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ سَوَاءً، وَقَدْ تَمَّ بِنَاؤُهَا الْمُهِمُّ فِي عَامٍ، وَسَكَنَهَا وَنَقَلَ إِلَيْهَا خَزَائِنَهُ وَبُيُوتَ الْمَالِ.

وَقِيلَ: سِعَتُهَا مِائَةٌ وَثَلاثُونَ جَرِيبًا، أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَمَانِيَةَ عَشْرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.

قَالَ بَدْرٌ الْمُعْتَضِدِيُّ: قَالَ لَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: انْظُرُوا كَمْ سِعَةُ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ، فَحَسَبْنَا فَإِذَا هي ميلين مكسرين في ميلين.

وقيل: مسافة مَا بَيْنَ كُلِّ بَابٍ وَبَابٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ.

وَكَانَ فِي هَذَا الْوَقْتِ رَخَاءُ الأَسْعَارِ بالعراق حتى أبيع الْكَبْشُ بِدِرْهَمٍ وَالْحَمَلُ بِأَرْبَعَةِ دَوَانِيقَ، وَالتَّمْرُ سِتُّونَ رَطْلا بِدِرْهَمٍ، وَالزَّيْتُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلا بِدِرْهَمٍ، وَالسَّمْنُ ثَمَانِيَةٌ بِدِرْهَمٍ. -[793]-

قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: أَنَا رَأَيْتُ يُنَادَى فِي جَبَّانَةِ كِنْدَةَ: لَحْمُ الْغَنَمِ سِتُّونَ رَطْلا بِدِرْهَمٍ، وَالْعَسَلُ عَشَرَةٌ بِدِرْهَمٍ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّ بَغْدَادَ مَبْنِيَّةٌ بِالآجُرِّ، اللَّبِنَةُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، زِنَتُهَا مِائَةُ رَطْلٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَطْلا، وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، بَيْنَ الْبَابِ وَالْبَابِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ بُرْجًا، وَعَلَيْهَا سُورَانِ، ثُمَّ بُنِيَ الْجَامِعُ وَالْقَصْرُ، وَكَانَ فِي صَدْرِ الْقَصْرِ إِيوَانٌ طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، عَلَيْهِ الْقُبَّةُ الْخَضْرَاءُ ارْتِفَاعُهَا ثَمَانُونَ ذِرَاعًا. سَقَطَ رَأْسُهَا لَيْلَةَ مَطَرٍ وَرَعْدٍ عَظِيمٍ فِي سَنَةِ تسع وعشرين وثلاث مائة.

وَكَانَ لا يَدْخُلُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ رَاكِبًا سِوَى الْمَنْصُورِ، وَابْنِهِ.

قَالَ الصُّولِيُّ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ: ذَرْعُ بَغْدَادَ يَعْنِي الْجَدِيدَةَ قَالَ: ذَرْعُ الْجَانِبَيْنِ ثَلاثَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ. وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الصُّولِيِّ: إِنَّهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ ثَلاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ جُرَيْبٍ وسبع مائة.

ثُمَّ قَالَ الصُّولِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي طَاهِرٍ أَنَّ عَدَدَ حَمَّامَاتِهَا كَانَتْ ذَلِكَ الْوَقْتِ سِتِّينَ أَلْفًا. وَقَالَ: أَقَلُّ مَا يُدَبَّرُ كُلَّ حَمَّامٍ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ، وَذَكَرَ أَنَّ بِإِزَاءِ كُلِّ حَمَّامٍ خَمْسَةُ مَسَاجِدَ.

قُلْتُ: كَذَا نَقَلَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَمَا أَعْتَقِدُ أَنَا هَذَا قَطُّ وَلا عُشْرَ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي هِلالُ بن المحسن قَالَ: كُنْتُ بِحَضْرَةِ جَدِّي إِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلالٍ الصَّابِي، فَقَالَ تَاجِرٌ فَذَكَرَ أَنَّ بِبَغْدَادَ الْيَوْمَ ثَلاثَةُ آلافِ حَمَّامٍ، فَقَالَ جَدِّي: سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا سُدُسُ مَا كُنَّا عَدَدْنَاهُ وَحَصَرْنَاهُ زَمَنَ الْوَزِيرِ الْمُهَلَّبِيِّ، ثُمَّ كَانَتْ فِي دَوْلَةِ عَضُدِ الدولة خَمْسَةَ آلافٍ وَكَسْرًا.

وَنَقَلَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ اسْتِكْمَالَ بَغْدَادَ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَهِيَ بَغْدَادُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى دِجْلَةِ، وَبَغْدَادُ الْيَوْمَ هِيَ الْجَدِيدَةُ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَفِيهَا دَارُ الْخِلافَةِ، وَقَدْ كان السفاح -[794]- بَنَى عِنْدَ الأَنْبَارِ مَدِينَةَ الْهَاشِمِيَّةَ وَسَكَنَهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الأَنْبَارِ وَبِهَا تُوُفِّيَ.

وَفِيهَا خَرَجَتِ التُّرْكُ الْخَزَرِيَّةُ، وَهُمْ أَهْلُ صَحْرَاءِ الْقُفْجَاقِ مِنْ بَابِ الأَبْوَابِ، وَقَتَلُوا بِأَرْمِينِيَّةَ خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبُوا الْحَرِيمَ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015