فِي صَفَر أمر نائب دمشق وهو الشجاعيّ، بإنزال الكأس السماقيّ البرّاق من القلعة إلى الجامع، فأنزل والمؤذنون بين يديه يقرؤون والصّبيان يصيحون، إلى أنّ وضع موضع البرّادة. وقُلعت البَرَّادة ولم يكن هذا الكأس مثقوبًا، فثقبة المرخّمون فِي أيّام. وهو كأس كأنّه هناب مُرَحرَح، يسع نحو عشرة أرطال ماء أو أقلّ. وحجره من جنس اللَّوحين اللَّذين عن جنبتي محراب جامع دمشق، حجر أملس بصّاص مانع قليل الوقوع. ثُمَّ أُجري فِيهِ الماء وسمرت المغرفتان مع الركن وشربنا منه. ثُمَّ أخذوه إلى القلعة وعُمل فِي دار السّلطنة بعد أيّام.
وفيه أُخرب حمّام الملك السّعيد ولم يكن فِي الشَّام بأسرها حمّام أحسن منه ومُغَلّه عظيم. وكان بينه وبين باب السّرّ الَّذِي للقلعة نحو سبعين ذراعًا. وأخذوا من حجارة بابه وعملوها على باب السّرّ. وخرّبوا ما حوله من الدور وغيرها.
وفيه كان البناء فِي القلعة والطارمة بجدٍّ وسهر واجتهادٍ عظيم. وبُني باب الميدان بأعمدةٍ كانت فِي القلعة وعُمِل له حيطان هائلة العرض. واقتسمت الأمراء عمله وأقيم فِي زمنٍ يسير بهمة عالية وسرعة زائدة.
وفي ربيع الأوّل خطب أمير المؤمنين الحاكمُ بأمر اللَّه يوم الْجُمُعَة -[680]-
بجامع قلعة الجبل خطبةً جهاديّة، فقيل هِيَ التي لقنه إياها شيخنا الشيخ شرف الدين ابن المقدسي.
وفيه ولي خطابة دمشق الشَّيْخ عز الدِّين أحمد ابن الفاروثي وخرج بعد يوم بالنّاس إلى الصَّحراء للاستسقاء إلى مَيْدان الحصى. وذلك فِي وسط آذار وبعد يومٍ أو يومين حصل للغوطة صقْعةٌ شديدة أعطبت الصّحراء والثّمار ولم يُعْهَد مثلُها من نيف وعشرين سنة.
وفي يوم الإثنين بعد جمعة خرج النّاس أيضًا للاستسقاء إلى قريب مسجد القدم وخطب الفاروثي ومشى إلى ثَمّ نائب السَّلْطنة الشُّجاعيّ والجيش والخلائق وابتهلوا إلى اللَّه، ثُمَّ رزق الله الغيث وجاءت الرحمة.
وفيه درّس الشَّيْخ صدر الدِّين عبد البر بْن رزين بالقَيْمُرية لسفر مدرّسها القاضي علاء الدين أحمد ابن قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز.
وفيه - أعني ربيع الآخر - انتهت عمارة دار السّلطنة بقلعة دمشق ودخل فيها نحو أربعة آلاف دينار فِي الزّخرفة. وعمل النّائب للسلطان دِهليزًا عظيمًا إلى الغاية، طولُ عموده بضعةٌ وثلاثون ذراعا ستّ وصْلات، لا يمكن الشّخص أن يحضنه والفلكة التي فِي أعلاه كأنّها فردة طاحون. وهو من هذه النّسبة. وتنوّع فِي عمل خامه وغرم عليها أموالًا ونُصب بالميدان ليراه السّلطان، فقاسوا المشاقَ حَتَّى انتصب، فجاء هواءٌ عاصف فرماه، فشرعوا فِي عمل دِهليزٍ أصغر منه.
وفي جُمَادَى الأولى دخل دمشقَ الملك الأشرف، ثُمَّ صلّى بجامع دمشق يوم الْجُمُعَة بالمقصورة وأسرجت له شموع كثيرة وخلع على الخطيب عز الدين الفاروثي.
وأقام السّلطان بدمشق عشرة أيّام وسار إلى حلب فدخلها في أواخر الشهر بالجيوش وضيفه صاحب حماة وبالغ في الاحتفال وأدخله الحمام.
وفيه درّس الشَّيْخ صفيُّ الدِّين الهنديّ بالظّاهريّة بعد رواح مدرسها ابن بنت الأعز إلى مصر. -[681]-
وفيه نكح الأمير شمس الدِّين الأعسر ابْنَة الصاحب شمس الدين ابن السلعوس على ألف وخمسمائة دينار.
وفيه حُبست الشيخة البغداديّة وتعصّب عليها جماعة من الأحمديّة وأوذيت فصبرت وقالت: أَنَا لا أترك النَّهي عن المُنكَر. ثُمَّ سلّمها اللَّه بحسن نيتها.
وفي ثامن جُمَادَى الآخرة نازل السّلطان وجيوشه قلعة الروم وحاصرها شهرًا وثلاثة أيام.
وفيه نزل الفاروثيّ عن تدريس النجيبيّة للشيخ ضياء الدين عبد العزيز الطوسي.
وفيه وقع من أخي رئيس المؤذّنين البرهان أمرٌ صعْب وهو أنّه وعبد أسود تحيَّلا فِي النُّزول على حُرَم السّلطان الَّذِين تركهم بالقلعة وأحضرا سُلَّمًا وأرادا التّسلّق منه، ففُطِن لهما وأُخِذا وكوتب فيهما، فجاء الأمرُ بتسميرهما، فسمرا وماتا.
وفي حادي عشر رجب فُتحت قلعة الرّوم بالسَّيف عنْوةً ودُقّت البشائر وزُيّنت البلاد وترحّل السّلطان وبقي عليها عسكر الشَّام والشجاعي لعمارتها وترميم ما تشعّث بالمجانيق. فقدِم السّلطانُ حلب وعزل عَنْهَا قراسُنْقُر المنصوريّ وأمّر عليها سيفَ الدِّين بلَبان الطَّبّاخيّ المنصوريَّ متولّي السّاحل. وأمّر على السواحل طُغْريل الإيغانيّ. وأمّر على قلعة الروم الأمير عز الدين الموصلي.
وفيه فتح الشجاعي الزاكات وهي معاقل للأرمن على الفُرات وأخذ منها نحوًا من ألف نفس.
وفيه بدت من الْجَمَال المحقّق معيد القَيْمُريّة هفوة فِي الدَّرس، فقام مدرّس القَيْمُريَّة صدْرُ الدين ابن رزين وشكاه وجرت أمورٌ أوجبت أنّ المحقّق أسلم عند القاضي شرف الدِّين الحنبليّ وحُكم بإسلامه وحُقِن دمُه وترك -[682]-
إعادة القَيْمُريَّة وقايض نجم الدِّين الدّمشقيّ إلى إعادة الرواحية.
وفي تاسع شعبان دخل السلطان دمشق مؤيدا منصورًا والأسرى بين يديه، منهم خليفة الأرمن.
وأمّا نائب السّلطنة بَيْدرا وسُنقُر الأشقر وقراسُنقُر وبكتوت العلائيّ وكثيرٌ من الجيش فسار إلى بَعْلَبَك، ثُمَّ إلى جبل الجرديّين ووافاهم من جهة السّاحل رُكنُ الدِّين طقصو وعزّ الدِّين أَيْبَك الحمويّ، فنزلوا على الجبل، فحضر إلى بيدرا مَن فَتَر همّته عَنْهُمْ وتمكّنوا من أطراف الجيش فِي تلك الجبال الوعرة ونالوا منهم، فرجع الجيش شبْه المقهورين وحصل للجبليّين الطَّمَع والقوّة، ثُمَّ هادنتهم الدّولة وخلع على جماعة منهم. وحصل بذلك للعسكر وهْن. ثُمَّ قَدِمَ بيدرا دمشقَ، فعاتبه السّلطان، فتألّم ومرض وزاره السّلطان، ثُمَّ عُوفي. وعمل السّلطان ختمةً بجامع دمشق لعافيته.
وليلة نصف رمضان تُوُفّي صدران كبيران موقعان عديما النظير: فتح الدين محمد بن محيي الدين ابن عَبْد الظاهر ومن الغد تُوُفّي سَعْد الدِّين سعد الله الفارقي.
وفي رمضان أُحضر الأمير عَلمُ الدِّين الدّواداريّ من حبْس الديار المصريّة إلى دمشق وأنعم عليه السّلطان وأعادَه إلى الإمرة وأفرج عن أمواله وحواصله. ثُمَّ سار صُحبة الرّكاب الشّريف.
وفيه وُلّي خطابة دمشق موفَّق الدِّين مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن حُبَيش الحمويّ عِوَضًا عن الشَّيْخ عزَّ الدِّين الفاروثيّ، فباشر يوم الْجُمُعَة الثّامن والعشرين من رمضان. وحضر السّلطان يومئذٍ بالمقصورة.
وهرب الأمير حسام الدِّين لاجين بسبب مسْك الأمير رُكْن الدِّين طقصو وخرج السّلطان إلى المَرْج فِي طلبه ونادت المنادية بدمشق على الأمير لاجين.
وفي سابع شوّال دخل الشُّجاعيّ بعسكر دمشق، أتوا من ناحية قلعة الرّوم. وقد فرغوا من أشغالهم.
ويومئذٍ قُيَّد شمس الدِّين الأعسر وبُعث إلى مصر.
وعُزل الشُّجاعيّ من نيابة دمشق بعزّ الدِّين الحموي.
وتوجّه السّلطان إلى مصر فِي عاشر شوّال بسَحَر وبات أهل الأسواق -[683]-
بظاهر البلد مرّتين بالشّمع إلى ميدان الحصى.
وأمّا لاجين، فَلَمّا هرب قصدَ بعضَ أمراء العرب بأرض صَرْخد وطلب منه أنّ يُوصله إلى الحجاز، فقبض عليه وأتى به إلى السّلطان يوم الرابع من شوّال. فقيّده وبعث به إلى مصر.
ثم قيد سنقر الأشقر وبعث به أيضًا.
وولي جمال الدين ابن صَصْرَى نظر الدّواوين وأُعفي من ذَلِكَ محيي الدين ابن النّحّاس وعُوِّض بنظر الخزانة. وعُزل أمين الدِّين ابن هلال.
ويوم تاسع عَشْر شوّال توجّه الركْب وأميرُهُم سيف الدين باسطي المنصوري.
ويومئذ أمسك علاء الدين ابن الجابي خطيب جامع جَرّاح وأخُذ ماله واتّهم بضرب الزَّغْل. وكان مُغْرى بالكيمياء فضُرب وحُبس مدّة ثم أطلق بعد شهر ونصف.
وفي ذي القعدة دخل السّلطان مِصْر وأفرج عن حسام الدِّين لاجين وأعطاه مائة فارس.
وفي ذي الحجة قدم الشام نحو ثلاثمائة فارس من التتار مقفرين وتوجهوا إلى القاهرة.
وفي أواخرها وقيل فِي أوّل سنة اثنتين أحضر السّلطان بين يديه سُنقُر الأشقر وطقصو فعاقبهما، فأقرّا أنّهما عزما على قتله وأنّ حسام الدِّين لاجين لم يكن معهم، فأمر بهما فخُنِقا بوَتَرٍ وأفرج عن لاجين بعد أن كان الوتر في حلقه. وقيل خُنق وتُرك بآخر رَمَق، فشفع فِيهِ بيدرا والشُجاعيّ فأطلقه وأُنزل الآخران إلى البلد فسُلّما إلى أهاليهما. وأُهلك معهما أمراء منهم جرمك وسُنقران والهارونيّ.
ذِكر القصيدة التي أنشأها المولى شهاب الدِّين محمود فِي السّلطان
وقيل: إنّها لغيره، فقد سألتُه عَنْهَا فلم يعرِفْها وإنّما هِيَ لشاعرٍ من تجّار بغداد مات سنة بضع وسبعمائة، سمعها منه ابن منْتاب. وبعد ذَلِكَ ظهرت أنّها للمولى شهاب الدِّين وأخرجها بالخطّ العتيق وحدث بها. سمعها منه العلائي وغيره. -[684]-
لك الرّاية الصَّفراءُ يقدمُها النَّصرُ ... فمن كيقُباذُ إنْ رآها وكيْخُسْرُو
إذا خَفَقَتْ فِي الأفْق هُدْبُ بُنُودِها ... هَوى الشِّرْكُ واستعلى الهُدى وانْجلى الثغرُ
وإنْ نُشرت مثل الأصائِل فِي وغًى ... جلا النَّقْع من لألاء طَلْعتها البدرُ
وإنْ يممّت زُرْقَ العدى سار تحتها ... كتائبُ خضرٌ دَوحها البِيض والسُّمرُ
كأنّ مثار النَّقْع ليلٌ وخَفْقها ... بُرُوقٌ وأنت البدرُ والفَلَك الجِتْرُ
فكم وَطئت طَوْعًا وكرْهًا معاقلًا ... مضى الدّهر عَنْهَا وهي عانسة بِكْرُ
وإنْ رُمتَ حصنًا سابَقَتْكَ كتائبُ ... من الرُّعب أو جيش تقدّمه النَّصرُ
فلا حصنٌ إلا وهو سجنٌ لأهله ... ولا جسدٌ إلا لأرواحهم قبرُ
قصدت حِمى من قلعة الروم لم يُبح ... لغيرك إذ غرّتهم المُغْلُ فاغترّوا
وما المُغْل أكفاء فكيف بأرمنٍ ... ولكنّه غزوٌ وكلّهُمُ كُفرُ
صرفت إليهم همة لَوْ صرفتها ... إلى البحر لاستولى على مده الجزر
وما قلعة الروم الّتي حُزْتَ فَتْحها ... وإنْ عظُمت إلا إلى غيرها جسرُ
طليعة ما يأتي من الفتح بعدها ... كَمَا لاح قبل الشمس فِي الأُفق الفجرُ
محجَّبَة بين الجبال كأنّها ... إذا ما تبدّت فِي ضمائرها سر
تفاوت نصفاها فللحوت فيهما ... مجالٌ وللنَّسْرَيْن بينهما وَكْرُ
فبعضٌ رسا حتى علا الماءُ فوقَهُ ... وبعضٌ سما حَتَّى هَمَا دونَه القَطْرُ
أحاط بها نَهران تبرز فيهما ... كَمَا لاح يَوْمًا فِي قلائده النَّحْرُ
فبعضهما العذْبُ الفُراتُ وإنّه ... لتحصينها كالبحر بل دونه البحرُ
سريع يفوت الطّرْف جريًا وحدْه ... كريح سُلَيْمَان التي يومُها شهرُ
منها:
فصبَّحْتَها بالجيش كالرّوض بهجةً ... صوارمُه أنّهاره والقنا الزُّهرُ
وأبعدت بل كالبحر والبيض موجُه ... وجردُ المذاكي السّفن والخوذ الدّرُّ
وأغربت بل كاللّيل عُوجٌ سيوفه ... أهِلَّتُهُ والنّبلُ أنجُمُهُ الزّهرُ
وأخطأت لا بل كالنّهار فشمسُهُ ... مُحيّاك والآصال راياتك الصُّفُر
ليوثٌ من الأتراك آجامُها القنا ... لها كلّ يوم فِي ذرى ظَفَرٍ ظُفرُ
فلا الريح تسري بينهم لاشتباكها ... عليهمُ ولا ينهلّ من فوقهم قَطْرُ -[685]-
غيوثٌ إذا الحربُ العوان تعرّضت ... لخُطّابها بالنّفس لم يغلها مهرُ
ترى الموت معقودًا بهدْب نبالهم ... إذا ما رماها القوس والنّظر الشزرُ
ففي كلّ سَرْج غصْنُ بانٍ مُهَفْهفٌ ... وفي كلّ قوس مدّه ساعد بدرُ
فلو وردتْ ماءَ الفُراتِ خيولُهُمُ ... لقيل: هنا قد كان فيما مضى نهرُ
أداروا بها سورًا فأضحتِ كخنْصَرٍ ... لدى خاتمٍ أو تحت منطقةٍ خصرُ
كأنّ المجانيق التي قُمنَ حولها ... رواعد سخطٍ وبلها النّار والصّخرُ
أقامت صلاةَ الحرب ليلًا صخورُها ... فأكثرها شَفْعٌ وأقتلها وترُ
لها أسهُمٌ مثل الأفاعي طِوالُها ... فواتك إلا أنّ أفتكها البترُ
سهامٌ حَكَتْ سهْمَ اللّحاظ بقتلها ... وما فارقت جفْناً وهذا هُوَ السِّحرُ
منها:
فبُشراك أرضَيْتَ المسيحَ وأحمدًا ... وإنْ غضب التكفُور من ذاك والكفرُ
فسِرْ حيث ما تختار فالأرض كلّها ... بحكْمك والأمصار أجمعها مصرُ