635 - عَبْد الرَّحْمَن بْن إِبْرَاهِيم بْن سباع بْن ضياء، العلامة، الإِمَام، مفتي الإِسْلَام، فقيه الشّام، تاج الدّين، أَبُو مُحَمَّد الفَزَاريّ، البدْريّ، الْمَصْرِيّ الأصل، الدّمشقيّ، الشافعيّ، الفِركاح. [المتوفى: 690 هـ]
وُلِد فِي ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستّمائة وسمع " الْبُخَارِيّ " من ابن الزَّبَيْديّ وسمع من التّقيّ عَلِيّ بن باسوية وأبي المنجى ابن اللّتّيّ ومُكَرَّم بْن أَبِي الصَّقر وابن الصّلاح والسخاوي وتاج الدّين ابن حمُّوَيه والزَّين أَحْمَد بْن عَبْد الملك وخلْق سواهم.
وخرّج لَهُ البِرْزاليّ عشرة أجزاء صغار عَنْ مائة نفس، فسمع منه: ولده برهان الدين وابن تيمية والمزي وقاضي القضاة نجم الدّين ابن صَصْرَى وكمال الدين ابن الزملكاني والشيخ علي ابن العطّار وكمال الدّين عَبْد الوهاب الشّهبيّ والمجد الصَّيْرفيْ وأبو الْحَسَن الخَتَنيّ والشمس مُحَمَّد بْن رافع الرَّحبي وعلاء الدّين المقدسيّ والشرف ابن سيده وزكي الدين زكري وخلْق سواهم.
وخرج من تحت يده جماعة من القضاة والمدرسين والمفتين. ودرّس وناظَرَ وصنَّف. وانتهت إليه رياسة المذهب كما انتهت إلى ولده وكان من أذكياء العالم وممّن بلغ رُتبة الاجتهاد. ومحاسنه كثيرة. وهو أجلّ من أن يُنبّه عَلَيْهِ مثلي. وكنت أقف وأسمع درسه لأصحابه فِي حلقة ابنه. وكان يلثغ بالراء غينًا مَعَ جلالته، فسبحان من لَهُ الكمال. وكان لطيف الجبة، قصيراً أسمر، حلو الصورة، ظاهر الدم، مُفَركح السّاقين بهما حنفٌ ما وريح. وكان يركب البغلة ويحف به أصحابه ويخرج بهم إلى الأماكن النَّزِهة ويُباسطهم ويحضر المغاني وله في النفوس صورة عظيمة لدينه وعلمه -[661]-
ونفعه العامّ وتواضعه وخيره ولُطفه وجُوده.
قرأت بخطّ الشّيْخ قُطْب الدّين قَالَ: انتفع بِهِ جمّ غفير ومُعظم فقهاء دمشق وما حولها وقُضاة الأطراف تلامذته. وكان رحمه اللَّه عنده من الكَرَم المُفْرط وحُسن العشرة وكثْره الصّبر والاحتمال. وعدم الرغبة فِي التكثُّر من الدّنيا والقناعة والإيثار والمبالغة فِي اللُّطف ولين الكلمة والأدب ما لا مزيد عَلَيْهِ، مَعَ الدّين المتين وملازمة قيام اللّيل والورع وشرف النّفس وحُسْن الخُلُق والتّواضع والعقيدة الحسنة فِي الفقراء والصُّلحاء وزيارتهم. وله تصانيف مفيدة تدلّ عَلَى محلّه من العلم وتبحّره فِيهِ. وكانت لَهُ يد فِي النَّظم والنَّثر.
قلت: تفقّه فِي صغره عَلَى الشّيْخ عزّ الدّين ابن عَبْد السلام والشيخ تقيّ الدّين ابن الصّلاح. وبرع في المذهب وهو شاب وجلس للإشغال وله بضعٌ وعشرون. ودرّس فِي سنة ثمانٍ وأربعين. وكتب فِي الفتاوى وقد كمّل ثلاثين سنة.
ولما قدم النواويٌ من بلده أحضروه ليشتغل عَلَيْهِ، فحمل همّه وبعث به إلى مدرس الرواحية، ليصبح لَهُ بها بيت ويرتفق بمعلومها. ولم يزل يُشغِل من ذَلِكَ الوقت إلى أن مات.
وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار. وكان إذا سافر إلى زيارة بيت المقدس يتنافس أهل البّر فِي التّرامي عَلَيْهِ , وإقامة الضيافات لَهُ. وكان أكبر من النواوي، رحمهما اللَّه، بسبع سنين. وكان أفقه نفسًا وأذكى قريحة وأقوى مناظرة من الشّيْخ محيي الدّين بكثير، لكنْ كَانَ محيي الدّين أنقل للمذهب وأكثر محفوظًا منه. وهؤلاء الأئمّة اليوم هُمْ خواصّ تلامذته: ابنه وقاضي القضاة والشيخ كمال الدّين ابن الزَّملكانيّ وكمال الدّين الشهبيّ وزكيّ الدين زكريا وكان قليل المعلوم، كثير البركة، مَعَ الكَرَم والإيثار والمروءة والتّجمّل. كان مدرس الباذرائية وُلّي تدريسها فِي سنة سبعٍ وسبعين ولم يكن بيده سواها إلّا ما لَهُ عَلَى المصالح. وكذلك ولده، أمتعنا اللَّه ببقائه.
وتجد غيره لَهُ عدّة مناصب وعليه ألوفٌ كثيرة من الدَّين. هذا وأين ما بين الرجلين من العِلم والدين.
قال رحمه الله ورضي عنه في سنة ثمانٍ وخمسين حين انجفل الناس: -[662]-
لله أيام جمع الشمل ما بَرحَت ... بها الحوادثُ حتى أصبحت سمرا
ومبتدأ الحزنِ من تاريخ مسألتي ... عنكم فلم ألقَ لا عَينًا ولا خَبَرا
يا راحلين قدرتم فالنجاء لكم ... ونحن للعجز لا نستعجز القَدَرا
وله:
يا كريم الآباء والأجداد ... وسعيد الإصدار والإيرادِ
كنت سعدًا لنا بوعدٍ كريمٍ ... لا تكن في وفائه كسعادِ
تُوُفّي الشّيْخ تاج الدين إلى رضوان الله ومغفرته بالباذرائية، فِي ضُحى يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة. ودُفن بمقابر باب الصغير وشيّعه الخلق وتأسفوا عَلَى فقْده. فإنّا لله وإنّا إلَيْهِ راجعون. وهو والشيخ شمس الدِّين عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي عُمَر أجلّ من روى " صحيح الْبُخَارِيّ " عَنِ ابن الزَّبَيْديّ.
وعاش ستًّا وستّين سنة وثلاثة أشهر.