94 - عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، شيخ الإسلام وبقية الأعلام، شمس الدين، أبو محمد وأبو الفرج، ابن القدوة الشيخ أبي عمر، المقدسي، الجماعيلي، ثم الصالحي، الحنبلي، الخطيب، الحاكم.

94 - عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن محمد بن قدامة، شيخ الإسلام وبقية الأعلام، شمس الدّين، أَبُو مُحَمَّد وأبو الفرج، ابن القُدوة الشّيْخ أَبِي عمر، المقدسيّ، الْجُمّاعيليّ، ثمّ الصّالحيّ، الحنبليّ، الخطيب، الحاكم. [المتوفى: 682 هـ]

وُلِد فِي المحرَّم سنة سبعٍ وتسعين وخمسمائة بالدّير المبارك بسفح قاسيون، وسمع حضورًا من ستّ الكَتَبة بِنْت الطّرّاح سنة تسعٍ وتسعين، وسمع من أبيه وعمّه الشّيْخ الموفَّق وعليه تفقّه، وعرض عَلَيْهِ " المقنع " وشرحه عليه، وشرحه في عشر مجلدات.

وسمع أيضًا من حنبل، وعمر بْن طَبَرْزد، وأبي اليُمْن الكنْدي، وأبي القاسم ابن الحَرسَتانيّ، وأبي المحاسن مُحَمَّد بْن كامل، والقاضي أبي المعالي أسعد بن المنجى، وابن البنّاء، وابن ملاعب، وأبي الفتوح البكريّ، وأبي الفتوح الجلاجلي، والشيخ العماد، والشهاب ابن راجح، والشمس الْبُخَارِيّ، والبهاء عَبْد الرَّحْمَن، والعزّ ابن الحافظ، والشمس أَبِي القاسم العطّار، وأبي الْحُسَيْن غالب بن عبد الخالق الحنفي، وأحمد بْن مُحَمَّد بْن سيدهم، ومحمد بْن وهب بْن الزّنف، ونصر اللَّه بْن نوح الْمَصْرِيّ، والموفق عَبْد اللطيف اللُّغوي، وهبة اللَّه الكهفي، ويوسف بن أبي الحسين الزّاهد. وطلب الحديث بنفسه، وكتب وقرأ عَلَى الشيوخ، فقرأ على: ابن الزبيدي وجعفر الهمداني، والضّياء المقدسيّ وطائفة. وسمع بمكة من أَبِي المجد القزويني، والتقي علي بن باسويه الواسطيّ، وبالمدينة من أَبِي طَالِب عَبْد المحسن بْن أَبِي العميد الخفيفيّ، وبمصر من مرتضى بْن أَبِي الجود، -[470]-

وبركات بْن ظافر بْن عساكر، وإبراهيم بْن الجبّاب، وجماعة وأجاز لَهُ: الإِمَام أَبُو الفَرَج ابن الجوزي، وأبو جعفر الصيدلاني، وأبو سعد عبد الله ابن الصفار، وعفيفة الفارفانية، وأبو الفتح المندائيّ وخلق كثير.

روى عَنْهُ الأئمّة أَبُو زكريّا النّواويّ، وأبو الفضل بْن قُدامة الحاكم، وأبو الْعَبَّاس ابن تيميَّة، وأبو محمد الحارثي، وأبو الحسن ابن العطّار، وأبو الحَجّاج الكلبيّ، وأبو إِسْحَاق الفَزَاريّ، وأبو الفداء إِسْمَاعِيل الحرّانيّ، وأبو عَبْد اللَّه بن مسلم، والبدر أبو عبد الله التّادفي، والزَّين عبد الرحمن اليلداني، وأبو عَبْد اللَّه بْن أبي الفتح، وأبو مُحَمَّد البِرزاليّ وخلق كثير.

وتفقه عَلَيْهِ غير واحد، ودرّس وأفتى، وصنّف، وانتفع بِهِ النّاس، وانتهت إليه رياسة المذهب فِي عصره، وكان عديم النّظيرِ عِلمًا وعملًا وزُهدًا وصلاحًا.

ولقد بالغ نجم الدّين ابن الخبّاز المحدّث وتعب وجمع سيرة الشّيْخ فِي مائة وخمسين جزءاً، تجيء ست مجلدات كبار، ولعل ثلثها مما يختصّ بترجمة الشّيْخ، والباقي فِي ترجمة النَّبِيّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكون الشّيْخ من أمته، وفي ترجمة الإمام أبي عبد الله أَحْمَد بْن حنبل وأصحابه، وهلُمّ جَرّا إلى زمان الشّيْخ.

وذكر أنّه حجّ ثلاث مرّات، الأولى سنة تسعٍ عشرة، والثانية سنة إحدى وخمسين، وحجّ معه شيخنا تقيّ الدّين سُلَيْمَان، وكانت وقفة الجمعة، والثالثة سنة ثمانٍ وسبعين لأنّه رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبه فِي المنام، فقام بذلك.

وحضر من الفتوحات: الشّقيف فِي سنة ستٍّ وأربعين، وصفد فِي سنة أربعٍ وستّين، والشّقيف ويافا سنة ستٍّ وستّين، وحصن الأكراد سنة تسعٍ وستين.

وكان كثير الذّكر والتّلاوة، سريع الحفظ، مليح الخطّ بمرّة، يصوم الأيّام البيض وعشر ذي الحجّة والمحرَّم، وكان رقيق القلب، غزير الدّمعة، سليم القلب، كريم النّفس، كثير القيام بالليل والاشتغال بالله، محافظًا عَلَى صلاة الضُّحى، ويصلّي بين العشاءين ما تيسر، وكان يبلغه الأذى من جماعة فما أعرف أنّه انتصر لنفسه، وكان تأتيه صِلات من الملوك والأمراء، فيفرّقها عَلَى أصحابه وعلى المحتاجين، وكان متواضعًا عند العامة، مترفِّعاً عند الملوك، -[471]-

حسن الاعتقاد، مليح الانقياد، كلّ العالم يشهد بفضله، ويعترف بنبله.

وكان حَسَن المحاورة، ظريف المجالسة، محبوب الصّورة، بشوش الوجه، صاحب أناة وحلم ووقار ولطف وفتوة وكرم، وكان مجلسه عامرًا بالفقهاء والمحدّثين وأهل الدّين، وكان علامة وقته، ونسيج وحده، وريحانة زمانه، قد أوقع الله محبته في قلوب الخلق، ذَلِكَ فضل اللَّه يُؤتيه من يشاء، ولم أر أحدًا يصلّي صلاةً أحسن منه، ولا أتمّ خشوعًا، وكان يدعو بدعاءٍ حسَن بعد قراءتهم لآيات الحرس بالجامع بعد العشاء.

وكان ربع القامة، وليس بالقصير، أزهر اللّون، واسع الوجه، مشرَباً بحُمرة، واسع الجبين، أزجّ الحاجبين، أبلج، أقنى الأنف، كَث اللّحية، سهل الخدّين، أشهل العينين، رقيق البَشَرَة، متقارب الخُطى، تَسَرى أوّلًا بجاريةٍ ولم تُقم عنده، ثمّ بأخرى اسمها " خطلو "، فولدت لَهُ أَحْمَد فِي سنة خمسٍ وعشرين، فصلى بالناس، وحفظ " المقنع "، وعاش ستة عشرة سنة، ثم ولدت مُحَمَّدًا، فمات سنة ثلاثٍ وأربعين، وله أربع عشرة سنة، وولدت لَهُ ثلاث بنات، منهن فاطمة التي ماتت سنة خمسٍ وثمانين، ثم تزوج " خاتون " بِنْت السّديد عَبْد الرَّحْمَن بْن بركات الإربليّ فِي سنة ثمانٍ وثلاثين، فولدت لَهُ الشرف عَبْد اللَّه سنة تسعٍ وثلاثين، والعزّ محمدًا سنة ستِّ وأربعين، والقاضي نجم الدّين أَحْمَد سنة إحدى وخمسين، ثم ستّ العرب التي تُوُفّيت سنة اثنتين وسبعين عَنْ نحو ثلاثين سنة، وخلّفت الفخر عَبْد اللَّه ابن شمس الدين محمد ابن الخطيب شَرَف الدّين عَبْد اللَّه بْن أَبِي عمر، وتوفي الشمس أَبُو هذا سنة ثمانٍ وستّين قبل أخيه الشيخ العزّ بيسير، ثم تزوج الشّيْخ بحبيبة بِنْت التقي أحمد ابن العزّ، فولدت لَهُ علّيًا، فعاش ستّ سنين، ومات، ثم ولدت له عليًّا وعمر وزينب وخديجة، فتُوُفّي عُمَر سنة خمسٍ وثمانين، وقُتل الفقيه علي سنة سبعمائة بأرض ماردين شهيداً.

وقال أبو الفتح ابن الحاجب الحافظ: سَأَلت الحافظ ابن عَبْد الواحد عَنْ شمس الدِّين عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي عُمَر فقال: فقيه، إمام، عالم، خيّر، ديّن، حافظ، تفقه على عمه، وسمع على جماعة كثيرة.

قَالَ ابن الخبّاز: وكان كثير الاهتمام بأمور النّاس كلّهم ويسأل عَنِ -[472]-

الأهل والجيران والأصحاب، لا يكاد يسمع بمريض إلّا افتقده، ولا مات أحدٌ من أهل الجبل إلا شيّعة، ولا سَمِعَ بمكانٍ شريف إلّا زاره ودعا فيه.

وكان كثير التّردُد إلى مغارة الدم، ومغارة الجوع، وكهف جبريل، وكان يقصد زيارة قبر والده وجدّه بعد العصر في كل جمعة، ويقرأ " يس " و" الواقعة " وما تيسَّر ويهديه ويدعو للمسلمين.

وحدَّثني التّاج عَبْد الدائم بن أَحْمَد بن عَبْد الدائم أنّ شيخنا رحل إلى يُونين، وأقام بها أربعين يومًا يعبد اللَّه ويسأله ويتضرّع إلَيْهِ، وكان معه العز أحمد ابن العماد، قَالَ: وأملى علينا الإِمَام مفتي الشام محيي الدّين يَحْيَى النّواويّ بدار الحديث، قَالَ: شيخنا الإِمَام العلامة، ذو الفنون من أنواع العلوم والمعارف، وصاحب الأخلاق الرضيّة، والمحاسن واللّطائف، أبو الفرج، وأبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي، سمع الكثير وأسمعه وأسمع قديمًا فِي حياة شيوخه، وهو الإِمَام المتَّفَق عَلَى إمامته وبراعته وورعه وزهادته وسيادته، ذو العلوم الباهرة، والمحاسن المتظاهرة.

قال: وحدثنا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق اللّوريّ المالكيّ، قَالَ: كَانَ شيخنا شيخ الإِسْلَام، قُدوة الأنام، حسَنَة الأيّام، الرّبانيّ، شمس الدّين عَبْد الرَّحْمَن ابن شيخ الإِسْلَام أَبِي عُمر ممّن تفتخر بِهِ دمشق عَلَى سائر البلدان، بل يزهو بِهِ عصره عَلَى متقدَّم العصور والأزمان، لما جمع اللَّه لَهُ من المناقب والفضائل والمكارم التي أوجبت للأواخر الافتخار عَلَى الأوائل، منها: التّواضع مَعَ عظمته فِي الصّدور، وترك التّنازع فيما يُفضي إلى التّشاجر والنّفور، والاقتصاد فِي كلّ ما يتعاطاه من جميع الأمور، لا عجرفة فِي كلامه، ولا تقعر، ولا تعظُّم في مشيته ولا تبختر، ولا شطط في ملبسه ولا تكثر، ومع هذا فكانت لَهُ صدور المجالس والمحافل، وإلى قوله المنتهى فِي الفصل بين العشائر والقبائل، مع ما أمده الله به من سعة العلم، وفطره عَلَيْهِ من الرأفة والحلم، ألحَقَ الأصاغر بالأكابر في رواية الحديث، إلى أن قال: لا يوفر جانبه عمن قصده قريبا كان أو أجنبيا، ولا يدخر شفاعته عمّن اعتمده مسلمًا كَانَ أو ذِمّيًّا، ينتاب بابه الأمراءُ والملوك، فيساوي فِي إقباله عليهم بين المالك والمملوك.

وسمعت فخر الدّين عُمَر بن يحيى الكرجي يَقُولُ: يا أخي، الشّيْخ أشهر من أن يوصف، بل أقول: تعذَّر وجُود مثله فِي أعصارٍ كثيرةٍ عَلَى ما بلغني من سيرة العلماء. -[473]-

وُلّي الشّيْخ قضاء القضاة فِي جمادى الأولى سنة أربعٍ وستّين عَلَى كرهٍ منه، سَمِعْتُ عماد الدين يَحْيَى بْن أَحْمَد الحَسَنيّ الشّريف يَقُولُ: الشّيْخ عندي فِي الرُتْبة عَلَى قدم أَبِي بَكْر والشيخ زين الدّين الزّواويّ عَلَى قدم عُمَر، فما رأت عيني مثلهما.

وقال أيضًا: كَانَ الشّيْخ والله رحمةً عَلَى المسلمين، ولولاه راحت أملاك النّاس لمّا تعرَّض إليها السلطان ركُن الدّين، فقام فيها مقام المؤمنين الصّدّيقين، وأثبتها لهم، وبذل مجهوده معهم، وعاداه جماعة الحكّام، وعملوا فِي حقّه المجهود، وتحدّثوا فِيهِ بما لا يليق، ونصره اللَّه عليهم بحُسن نيّته، يكفيه هذا عندَ اللَّه.

سَمِعْتُ الإِمَام عماد الدّين مُحَمَّد بْن عَبَّاس بْن أَحْمَد الرَّبعي بالبيمارستان النُّوري يَقُولُ: رحمة اللَّه عَلَى الشّيْخ شمس الدّين، كَانَ كبير القدر، جعله الله رحمةً عَلَى المسلمين، ولولاه كانت أملاك النّاس أُخِذت منهم.

ثمّ ساق ابن الخبّاز ثناءَ جماعةٍ كثيرة من الفُضَلاء عَلَى الشّيْخ، وساق فصلًا طويلًا في نحو من مائتي ورقة، فِيهِ منامات مَرْئيّة من عددٍ كثير للشيخ، كلها تدل عَلَى حُسن حاله، وأنّه من أهل الجنة.

وقد أثنى عَلَيْهِ الشّيْخ قُطْبُ الدّين، وقال: ولي القضاء مكرهاً وباشر مدّة، ثم عزل نفسه، وتوفر عَلَى العبادة، والتدريس والتصنيف، وكان أوحد زمانه فِي تعدُّد الفضائل، والتّفرُّد بالمحامد، وحجّ غير مرّة، ولم يكن لَهُ نظير فِي خُلُقه وما هُوَ عَلَيْهِ، وكان عَلَى قدم السَّلف الصّالح فِي معظم أحواله، ورثاه غير واحد.

قلت: رثاه قريب ثلاثين شاعرًا، وكانت جنازته مشهودة، لم يسمع بمثلها من دهرٍ طويل، حضرها أممٌ لا يحصَون، وكان مقتصدًا فِي ملبسه وله عمامة صغيرة بعذَبةٍ بين يديه، وثوب مقصور، وعلى وجهه نور وجلالة، وكان ينزل البلد عَلَى بهيمةٍ، ويحكم بالجامع.

ولا يسع هذا الكتاب منتخب ما أورده ابن الخبّاز، وربمّا اختصر ذَلِكَ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وقد أجاز لي مَرْويّاته، ولله الحمد، وتمرّض أيّامًا، ثم انتقل إلى اللَّه تعالى ليلة الثلاثاء سلْخ ربيع الآخر، -[474]-

بمنزله بالدير، ودفن عند والده، وقد رثاه القاضي شهاب الدّين محمود، الكاتب بقصيدةٍ طويلة أوّلها:

ما للوجود وقد علاه ظلامُ ... أعَراهُ خَطْبٌ أم عَدَاه مرامُ

وهي نيف وستّون بيتًا.

ورثاه الأديب البارع شمس الدين محمد الصائغ بقصيدة أوّلها:

الحال من شكوى المصيبة أعظمُ ... حيث الرّدى خصمٌ بعيد يخصم

وهي ستّة وخمسون بيتًا.

ورثاه المولى علاء الدين ابن غانم بقصيدةٍ حسنة، ورثاه الشيخ محمد ابن الأرموي بقصيدةٍ قرأتها عليه، ورثاه البرهان ابن عَبْد الحافظ بقصيدة قرأتها عَلَيْهِ أيضًا، ورثاه مجد الدين ابن المهتار بقصيدةٍ، ورثاه نجم الدّين عَلِيّ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن فُليته التّميمي الحنفي بقصيدة، ولم يخلف بعده مثله في جملته.

وقال شمس الدّين مُحَمَّد بْن أَبِي الفتح رحمه اللَّه: مرض شيخنا سبعة عشر يومًا بالبطن، فهو شهيد.

أخبرني شيخنا فخر الدّين البعْلَبَكّي أنّه منذ عرفه ما رآه غضب، وعرفه نحو خمسين سنة.

قَالَ ابن أَبِي الفتح: وكان مَعَ ذَلِكَ زاهدًا فِي الدنيا والمناصب، ولي القضاء أكثر من اثنتي عشرة سنة، لم يتناول عَلَى ذَلِكَ رزقًا، ثمّ تركه بعد، حدَّث " بالمسند " عَنْ حنبل وبكتابي: " أبي داود " و" الترمذي " عن ابن طبرزد، و" بسنن ابن ماجه " عن الشيخ الموفق، و" بالبخاري " عن ابن الزبيدي، و" بالدارمي " عن ابن اللتي، ولي منه إجازة بخطه بسائر مروياته، وحدثني عنه طائفة من العلماء، رحمه الله تعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015