105 - عَبْد العزيز بْن عَبْد الواحد بْن إِسْمَاعِيل قاضي القُضاة بدمشق، رفيعُ الدّين، أَبُو حامد الْجِيليّ، الشّافعيّ، [المتوفى: 642 هـ]
الَّذِي فعل بالنّاس الأفاعيل.
كَانَ فقيهًا فاضلًا، متكلّمًا، مُناظِرًا، متفلسفًا، رديء العقيدة معثراً. قدِم الشّام، ووُليّ قضاءَ بَعْلَبَكّ فِي أيّام صاحبها الملك الصّالح إِسْمَاعِيل، ووزيره أمين الدّولة السّامريّ، فنفق عليهما، فلمّا انتقلت نوبة السَّلطنة بدمشق إلى إسماعيل ولاه القضاء، فاتفق هو وأمين الدّولة فِي الباطن عَلَى المسلمين، فكان عنده شهود زُور قد استعملهم ومدَّعون زُور. فيحضر الرجل إلى مجلسه من المتموّلين فيدّعي عَلَيْهِ المدَّعي بأنّ لَهُ فِي ذمّته ألف دينار أو ألفي دينار، فيبهت الرّجل ويتحيرَّ ويُنْكر، فيقول المدَّعي: لي شهود؛ ويحضر أولئك الشّهود فيلزمه الحُكْم، ثُمَّ يَقْولُ: صالح غريمك؛ فيصالحه عَلَى النِّصْف أو أكثر أو أقلّ، فاستبيحت للنّاس أموالٌ لا تُحصَى بمثل هذه الصّورة.
وفي " جريدة " صدر الدّين عَبْد الملك بْن عساكر بخطّه أنّ القاضي الرّفيع دخل من توجُّهه إلى بغداد رسولًا، وخرج لِتَلَقّيه الوزير أمين الدّولة والمنصور ابن السّلطان إِسْمَاعِيل. ودخل في زخم عظيمٍ وعليه خِلْعة سوداء وعلى جميع أصحابه. فقيل: إنّه لم يدخل بغداد ولا أُخذت منه رسالته، ورُدّ واشترى الخِلَع من عنده لأصحابه. وشرع الملك الصّالح فِي مصادرة النّاس عَلَى يد الرّفيع الْجِيليّ. وكتب إلى نوّابه فِي القضاء يطلب منهم إحضار ما تحت أيديهم من أموال اليتامى. فهذا القاضي ما ولي قاض مثله. كَانَ يسلك طريق الوُلاة ويحكم بالرِّشْوة، ويأخذ من الخصمين، ولا يعدّل أحدًا إلّا بمال، ويأخذ ذَلِكَ جَهْرًا، وفسْقه ظاهر. وقد استعار أربعين طبقًا ليهْدي فيها هديّة إلى صاحب حمص فلم يردها. فنسي الناس بأفعاله جور الولاة وأصحاب الشرط. -[415]-
وغارت المياه في أيامه ويبست البساتين وصقعت، وحصل القحط، وبقي الناس في البساتين يستقون بالجرار، وبطلت طواحين كثيرة، وصار نهر ثورا يوم النتوج لا يبلغ طاحونة مَقْرَى. ومات فِي ولايته عجميٌّ خلّف مائة ألف وابنة، فما أعطى البنت فلساً. وأذن الرفيع للنساء بدخول جامع دمشق، وقال: ما هُوَ بأعظم من الحَرَمين؟ فدخلْنَ وامتلأ بالنّساء والرّجال ليلة النّصف، وتأذّى النّاس بذلك حتّى شكوا إلى السّلطان، فمنع النساء منه.
قال أبو المظفر ابن الجوزي: حدَّثني جماعة أعيان أَنَّهُ كَانَ فاسد العقيدة، دَهْرِيًّا، مستهترًا بأمور الشّريعة، يجيء إلى صلاة الْجُمعة سَكْرانًا. وأنّ داره كانت مثل الحانة، شهد بهذه الأشياء عندي جماعةٌ عُدُول. وحكى لي جماعة أنّ الوزير السّامري بعث بِهِ فِي اللّيل من دمشق إلى قلعة بَعْلَبَكّ عَلَى بغْل بأكاف، فاعتقله واستأصله، ثُمَّ بعث بِهِ إلى مغارة أُفْقَة فِي جبل لُبْنان فأهلكه بِهَا. وبعث إِلَيْهِ عَدْلَين شهدوا عَلَيْهِ ببيع أملاكه. فحدَّثني أحدُهما قَالَ: رَأَيْته وعليه قنْدُورة صغيرة، وعلى رأسه تخفيفة، فبكى وقال: معكم شيء آكُل فلي ثلاثة أيّام ما أكلت شيئاً. فأطعمناه من زادنا، وشهِدنا عَلَيْهِ ببيع أملاكه للسّامريّ، ونزلنا من عنده، فبلغنا أنهم جاؤوا إِلَيْهِ، فأيقن بالهلاك وقال: دعوني أُصليّ ركعتين. فقام يصليّ وطوّل، فَرَفَسَه دَاوُد من رأس شَقِيف مُطِلٍّ عَلَى نهر إِبْرَاهِيم، فما وصل إلى القرار إلّا وقد تقطّع. وحكى لي آخر أنّ ذيله تعلّق بسنّ الجبل فضربوه بالحجارة حتّى مات.
وذكر ناصر الدّين مُحَمَّد ابن المُنَيْطِريّ، عَن عَبْد الخالق رئيس النَّيْرَب قَالَ: لمّا سُلِّم القاضي الرّفيع إلى المقدَّم دَاوُد سيف النقمة وإليَّ أيضًا وصلْنا بِهِ إلى الشَّقِيف وفيه عين ماء، فَقَالَ: عليَّ غُسْل وأشتهي تُمكّنوني أغتسِل وأصليّ. فنزل واغتسل وصلّى ودعا، ثُمَّ قَالَ: افعلوا ما شئتم. فدفعه داود، فما وصل إلى الوادي إلّا وقد تلف. -[416]-
قَالَ أَبُو المظفَّر: وحكى لي أعيان الدّماشقة أنّ الموفَّق الواسطيّ هُوَ كَانَ أساس البلاء، فتح أبواب الظُّلم، وجسَّر الرّفيع عَلَى جهنّم، وأخذ لنفسه من أموال النّاس ستّمائة ألف درهم. وآخر أمر الموفّق أَنَّهُ عُذِّب عذابًا ما عُذِّبه أحد، وكُسرت ساقاه ومات تحت الضَّرْب، وأُلقيَ فِي مقابر النّصارى، فأكلته الكلاب وصار عبرة.
قلت: وبلغني أن سبب هلاكه - أعني: الرّفيع وهذا - أنّ النّاس استغاثوا إلى الصّالح إِسْمَاعِيل من الرّفيع ورافعوه، وكثُرت الشّنائع، فخاف الوزير السّامريّ، وعجّل بهلاكهما ليمحو التُّهمة عَن نفسه ويُرضي النّاس، ولئلّا يُقِرّا عَلَيْهِ.
وقيل: إنّ السّلطان كَانَ عارفًا بالأمور، فالله أعلم.
ولم يُعِدّ النّاس قضيّة الرّفيع وقَتْلَه محنةً بل نقمة، نسأل اللَّه السّتْر والعافية.
وكان القبض عَلَيْهِ فِي آخر سنة إحدى وأربعين. وذكر واقعته فِي سنة اثنتين ابن الْجَوْزيّ، وغيره، فإنّ فيها اشتهر إعدامه.
وقال الإِمَام أَبُو شامة: وفي ذي الحجّة سنة إحدى قُبضَ عَلَى أعوان الرّفيع الْجِيليّ الظَّلَمة الأرجاس وكبيرهم الموفَّق حسين الواسطي ابن الرّوّاس، وسُجنوا ثُمَّ عُذِّبوا بالضَّرْب والعصر والمصادرة. ولم يزل ابن الرّوّاس فِي العذاب والحبس إلى أن فُقِد فِي جمادى الأولى سنة اثنتين.
قَالَ: وفي ثاني عشر ذي الحجّة أُخرج الرّفيع من داره وحُبِس بالمُقَدَّميّة. قَالَ: ثُمَّ أُخرج ليلًا وذُهِب بِهِ فسُجن بمغارة أُفْقَة من نواحي البِقاع، ثُمَّ انقطع خبره. وذكروا أنه توفي، ومنهم من قَالَ: أُلقيَ مِن شاهِق. وقيل: خُنِق. وولي القضاء محيي الدين ابن الزّكيّ.
قَالَ ابن واصل: حكى لي ابنُ صُبْح بالقاهرة أَنَّهُ ذهب بالرّفيع إلى رأس -[417]-
شقيف، فعرف أنيّ أريد رَمْيَه، فَقَالَ: باللّه عليك أمهِلْ حتّى أصليّ ركعتين. فأمهلته حتّى صلّاهما ثمّ رميته فهلك.
وقال غيره: كَانَ الرفيع فقيهاً بالعذراوية وبالشّاميّة والفلكيّة، وكان يشغل النّاس. وكان ذكيًّا كثير التّحصيل. وصارت بينه وبين أمين الدّولة عَلِيّ بْن غزال الوزير صُحْبة أكيدة، فولّاه قضاء بَعْلَبَكّ، فلمّا تُوُفّي القاضي شمس الدّين الخويي طلبه أمين الدّولة ووُليّ قضاء دمشق. فصار لَهُ جماعة يكتبون محاضر زُور عَلَى الأغنياء ويُحضِرونهم فيُنكرون، فيُخرجون المحاضر فيعتقلهم بالجاروخيّة، فيصالحون عَلَى البعض، ويُسيرِّ فِي السّرّ إلى أمين الدّولة ببعض ذَلِكَ. فكثُرت الشّكاوى. وبلغ السّلطانَ، فأمر بكشف ما حمل إلى الخزانة فِي مدّته. وكان الوزير لا يحمل إلى الخزانة إلّا اليسير. فَقَالَ الرّفيع: الأمور عندي مضبوطة مكتوبة. فخافه الوزير وشغب عَلَيْهِ قلب السلطان وحذره غائلته، فَقَالَ: أنت جئت بِهِ وأنت تتولّى أمره أيضاً. فأهلكه.
ومن تعاليق عبد الملك ابن عساكر قَالَ: وليلة استهلّت سنة اثنتين نزل الوالي ابن بكّا إلى دار الرّفيع واحتاطوا عَلَى ما فيها، وشرعوا بعد يومٍ فِي البيع، فمن ذلك: أربع عشرة بغلة، ومماليك، وتسعمائة مجلّد وجَوَارٍ وأثاث. وساروا بالقاضي فألبسوه طرطورًا وتوجهوا به نحو بعلبك. وولي القضاء محيي الدين ابن الزّكيّ.
وذكر صاحبنا شمس الدّين مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم فِي "تاريخه" قَالَ: وفيها - يعني سنة اثنتين - عُزِل الرّفيع الْجِيليّ عَن مدارسه. وكان فِي آخر السّنة الماضية قد عُزِل عَن القضاء، وسبب عزْله وإهلاكه الوزير السّامريّ؛ فإنّ الرفيع كتب فِيهِ ورقة إلى الملك الصّالح يقول: قد حملت إلى خزانتك ألف ألف دينار من أموال النّاس. فَقَالَ الصّالح: ولا ألف ألف درهم. وأوقف السّامريّ عَلَى الورقة فأنكر. فبلغ الرّفيع فَقَالَ: أَنَا أحاققه. فَقَالَ السّامريّ: هذا قد أكل البلاد وأقام علينا الشَّناعات، والرّأي عزْله ليتحقّق النّاس أنّك لم تأمره. فعزله وأعطى العادليّة لكمال الدين التفليسي صهر الخويي، والشّاميّة الكُبرى لتقيّ الدّين مُحَمَّد بْن رزين الحموي، والعذراوية لمحيي الدين يحيى -[418]-
ابن الزكي، والأمينية لابن عبد الكافي. ثم ولي القضاء محيي الدين، وناب له صدر الدين أحمد ابن سني الدولة. وأسقط محيي الدّين عدالة أصحاب الرّفيع وهم: العز ابن القطان، والزين ابن الحموي، والجمال بن أسيدة، والموفّق الواسطيّ، وسالم المقدسيّ، وابنه مُحَمَّد. وكان الطّامّة الكبرى الموفّق فإنّه أهلك الحرْث والنَّسْل.
وقال الموفَّق أَحْمَد بْن أَبِي أُصَيبعة: كَانَ بالعذراوية يشغل فِي أنواع العلوم والطِّبّ. وقرأت عَلَيْهِ شيئًا من العلوم الحكمية، وكان فصيح اللّسان، قويّ الذّكاء، كثير الاشتغال والمطالعة. وولي قضاء بَعْلَبَكّ. وكان صديقًا للصّاحب أمين الدّولة وبينهما عِشرة. وله من الكُتُب كتاب " شرح الإشارات والتنبيهات "، واختصار " الكُلّيّات من القانون " وغير ذَلِكَ.