616 - مُحَمَّد بن نصر الله بن مكارم بن الحسن بن عنين الأديب الرئيس شرف الدِّين أبو المحاسن الأنصاري الكوفيّ الأصل الزرعي المنشأ الدّمشقيّ الشَّاعر، [المتوفى: 630 هـ]
صاحب " الديوان " المشهور.
وُلِدَ بدمشق في سنة تسعٍ وأربعين وخمسمائة. وسمع من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر.
وكان شاعرًا محسنًا، رقيق الشعر، بديع الهجو. ولم يكن في عصره آخرُ مثله بالشام. طوّف وجال في العراق، وخراسان، وما وراء النهر، والهند، ومصر في التجارة. ومدح الملوك والوزراء، وهجا الصّدور والكبراء، وكان غزير المادّة من الأدب، مطلعًا على أشعار العرب، ومن نظمه:
وصلت منك رقعةٌ أسأمتني ... وثنت صبري الجميل ملولا
كنهار المصيف ثقلًا وكربًا ... وليالي الشتاء بردًا وطولا
ولَهُ:
وما حيوانٌ يتقي النَّاس بطشه ... على أنَّه واهي القوى واهن البطش
إذا ضعّفوا نصف اسمه كَانَ طائرًا ... وإن كرروا ما فيه كَانَ من الوحش
يعني: العقرب.
ولَهُ:
وصاحبٍ قال في معاتبتي ... وظن أن الملال من قبلي
قلبك قد كَانَ شافعي أبدًا ... يا مالكي كيف صرت معتزلي
فقلت إذ لج في معاتبتي ... ظلمًا وضاقت عن عذره حيلي
خدك ذا الأشعري حنفني ... فقال ذا أحمد الحوادث لي
قال ابن خَلّكان: بَلَغني أنَّه كَانَ يستحضر " الْجَمْهرة " لابن دُريد. ولَهُ -[940]- قصيدة طويلةٌ هجا فيها خَلْقًا من رؤساء دمشق وسمَّاها " مِقراض الأعراض " ونفاهُ صلاحُ الدِّين على ذلك. فقال:
فعلام أبعدتم أخا ثقةٍ ... لم يجترم ذنبًا ولا سرقا
أنفوا المؤذن من بلادكم ... إن كَانَ ينفى كلّ من صدقا
ودخلَ اليمن، ومدحَ صاحبها سيفَ الإسلام طغتكين أخا الملك صلاح الدِّين. ثمّ قَدِمَ مصر. ورأيته بإربل، وقَدِمَها رسولًا من الملك المعظم عيسى. وكان وافر الحرمة، ظريفًا، من أخف النَّاس روحًا. ولي الوزارة في آخر دولة المعظم ومُدَّة سلطنة ولده النّاصر بدمشق. ولَمّا تملك الملك العادل، بعث إليه بقصيدة يستأذنه في الدخول إلى دمشق ويستعطفه، وهي:
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى
جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أن ذلك مفترى
يا معرضًا عني بغير جنايةٍ ... إلّا لَمّا اختلق الحسود وزوّرا
منها:
فارقتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلى ورحلت لا متخيّرا
أشكو إليك نوى تمادى عمرها ... حَتّى حسبت اليوم منها أشهرا
ومن العجائب أنّ يقيل بظلكم ... كلّ الورى ونبذت وحدي بالعرا
لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو ولا جفني يصافحه الكرا
ولَهُ:
مال ابن مازة دونه لعفاته ... خرط القتادة وامتطاء الفرقد
مال لزوم الجمع يمنع صرفه ... في راحة مثل منادى المفرد
وقال أبو حفص بن الحاجب: اشتغل بطرفٍ من الفقه على القطب النَّيْسَابوريّ، والكمال الشهرزوريّ. وقرأ الأدب على أبي الثناء محمود بن رسلان، وذكر أنَّه سَمِعَ ببغداد من منوجهر بن تركانشاه راوي " المقامات ". واشتغل بالرَّيّ على ابن الخطيب. وكانت أدواته في الأدب كاملةً. ذو نوادر للخاصّة والعامة، وله الشعر الرّائق، كان أوحد عصره في نظمه ونثره، يخرج -[941]- جدة معرض المزح، وقاد الخاطر على كبر السنّ. أقامه الملك المعظّم مقام نفسه في ديوانه، كان محمود الولاية، كثير النصفة، مكفوف اليد عن أموال النَّاس مع عظم الهيبة، إلّا أنَّه في الآخر ظهر منه سوءُ اعتقادٍ، وطعنٌ على السلف، واستهتارٌ بالشريعة، وكثر عسفه وظلمه، وترك الصّلاة، وسب الأنبياء، ولم يزل يتناول الخمر إلى قبل وفاته بقليل. تُوُفّي في العشرين من ربيع الأوّل سَنَة ثلاثين.
قلت: ولَهُ ترجمةٌ فِي " تاريخ ابن النّجّار " وقال: نظرَ في الديوان بدمشق مُدَّة ولم تحمد سيرته، فعزل ولزم بيته عاجزًا عن الحركة لعلو سَنَة. وهُوَ من أملح أهل زمانه شعرًا، وأحلاهم قولًا وأرشقهم رصفًا، ظريف العشرة، ضحوك السن، طيب الأخلاق، مقبول الشخص، من محاسن الزمان.