-سنة ثلاثين وستمائة

فيها افتتح الملكُ الكاملُ ثغرَ آمِد بعد أن ضربها بالمجانيق، فَسَلَّمها صاحبُها الملكُ المسعود مودودُ ابن الصّالح الأتابَكيّ، وخرج وفي رقبته منديلٌ فرسم عليه، واستولى على أمواله وقلاعه، وبقي حصنُ كيفا عاصيًا، فسيَّر أخويه الأشرفَ والمظفّر غازيًا، ومعهما المسعود تحت الحَوْطةِ، فعذَّبَهُ الأشرفُ عذابًا عظيمًا، لكونه لم يُسَلِّم حصن كيفا، ولأنّه كَانَ يُبْغضه.

قال أبو المظفّر ابن الجوزيّ: فقال لي الملك الأشرف: وجدنا في -[659]- قصره خمسمَائة حرّةٍ من بنات النّاس للفِراش. ثمّ سُلِّمت القلعةُ في صفر، وعاد الأشرف إلى دمشق.

قال أبو شامة: سَمِعْتُ الصاحب بدرَ الدِّين جعفرًا الآمِديّ يحكي عن عظمة يوم دخول الكامل إلى آمد شيئاً ما نُحْسِنُ نُعَبِّرُ عنه، قال: وأخذ جميعَ رؤساء آمِد إلى مصر، فكنت أنا؛ وابنُ أختي الشّمس، وأخي الموفّق فيهم. فلمّا وصلنا الفرات قال أخي: اسمعُوا مني، لا شَكَّ أنا نَعبر إلى بلادٍ ليس فيها أحدٌ يعرفنا، ولا يعضُدُنا، ولا معنا مال نَتَّجِرُ فيه، فعاهِدوني على أداء الأمانة في خِدَمنا، فعاهدناه، فرزقنا الله بالأمانة أنَّا خدمنا في أجلّ المناصب بمصر والشّام، ورأيتُ جماعةً ممن كانوا أكبرَ منّا ببلدنا في مصر، يستعطونَ بالأوراق. وافتقر أهل آمِد، وتمزّقوا.

ونقل الصّلاح الإرْبِلِّيّ في أمرِ الملك المسعود أنَّه كَثُرَت عنه الأقاويلُ، واشتهر أنّ عينَه كانت ممتدةً إلى حُرَم رعيّته، فَوَكَّلَ نساءً يطفْن في آمِد، ويكشفن عن كُلّ مليحة، فإذا تحقّق ذلك سيّر من يحضرها قهراً، ويخلو بها الأيّام ويردُّها. وكان ظالمًا. ولَمّا كلموه في تسليم بلاده، وأنّ الكامل يُعطيه خُبْزًا جليلًا بمصر، قال: بشرط أنّ لا يُحجر عليّ، فإنّي ما أصبر عن المغاني والنّساء. فلمّا أَدَّى الصّلاحُ الرسالةَ إلى الكاملِ، تضاحكوا، وعمل الصلاحُ؛ وكان شاعرًا:

ولَمّا أَخَذْنَا آمِدًا بسُيوفِنَا ... ولَمْ يَبْقَ لِلمَخْذُولِ صَاحِبِهَا حِسُّ

غَدَا طَالِبًا مِنَّا أمانًا مؤكّدًا ... وقال مُنَايَ ما تَطَيِبُ بِهِ النَّفْسُ

سَلامةُ أَيْرِي ثمّ كُسّ أَنِيكُه ... فَقُلْنَا لَهُ خُذْ مَا تَمَنَّيْتَ يا نَحْسُ

ثمّ سلَّم الكامل جميعَ ذلك لولده الصّالح نجم الدّين أيّوب.

وتوجّه القاضي الأشرف أحمد ابن القاضي الفاضل رسولاً من الكامل، ثمّ عاد مع رسول الخلافة الصّاحبِ محييّ الدِّين ابن الجوزيّ إلى الكامل، ومعه تقليدٌ من المستنصر بالله بسلطنة الكامل، من إنشاء الوزير أبي الأزهر أحمد ابن النّاقد، وبخطّ العدل ناصر بن رشيد، وفي أعلاه بخطِّ الوزير: " للآراء المقدّسة زادها الله جلالًا وتعظيما مزيد شرفها في تتويجه "، وتحت البسملة علامة المستنصر بخطّه: " الله القاهر فوقَ عباده "، وأوَّله خطبة وإسراف -[660]- في تعظيم الخليفة، وفيه: " وآمرُه بتقوى الله، وبكذا، وبكذا ". وفي أوائله: " ولَمّا وَفَّقَ الله تعالى نصير الدّين محمد ابن سيف الدِّين أبي بكر بن أيّوب من الطّاعة المشهورة، والخِدَم المشكورة، إلى أن قال: وَوَسَمهُ - يعني الخليفة - بالمَلكِ الأجل، السيَّد الكامل، المجاهِد، المُرابطِ، نصير الدِّين، ركنِ الإسلام، أثير الإمام، جمالِ الأنام، سند الخلافة، تاجِ الملوك والسّلاطين، قامع الكفرة والمشركين، ألب غازي بك مُحَمَّد بن أبي بكر، مُعِين أمير المؤمنين، رعايةً لسوابق خدمة، وخدم أسلافه ".

وفيها كَانَ الغلاء ببغداد، وأبيع كُرُّ القمح بنيّفٍ وثمانين ديناراً.

وفيها وقَعَ بينَ صاحب ماردين، وبين صاحب الروم، والملك الأشرف، فنزل صاحبُ ماردين، وجاءته عساكرُ الروم فحاصروا حرَّان والرُّها والرَّقة، فاستولَوْا على الجزيرة. وفعلت الروم في هذه البلاد كما تفعل التّتار.

وفيها جمع راجح بن قَتَادَة جمعًا، وقدم مكّة، فدخلها، وطرد عنها عسكر صاحب الملك الكامل.

وفي ربيع الأوّل نُفِّذ أبو صالح نصر بن عبد الرّزّاق الجيليّ رسولًا إلى مظفّر الدِّين صاحب إربل، وبدر الدِّين صاحب المَوْصِل.

وفي رمضان تُوُفّي صاحب إِرْبِل، فتُقُدِّمَ إلى شرف الدِّين إقبال الخاصّ الشّرابيّ بالتّوجه إلى إِرْبِل، فتوجَّه بالعساكر، وجعل مُقَدَّمَها جمالَ الدِّين قشتمر. وكان بقلعة إربل خادمان: برنقش؛ وخالص، فكاتبا عِمَاد الدِّين زنكي؛ صهر مظفّر الدِّين، يَحُثَّانِهِ على المجيء ليُعطياه البلَد. فلمّا وصل عسكرُ الخليفة، عصيا وتمرَّدا. فشرعوا في محاصرتهم، وتفاقم الشَّرُّ، ثمّ زحف العسكرُ على البلد، وحمي القتال، ثمّ ظهروا على إربل، وألقوا النّارَ في أبوابها، ودخلُوها، ونهب الأوباشُ بعض الدُّور، وسُلِّمَتِ القلعةُ، ورتّب بها نواب للخليفة، وضُرِبَتِ البشائرُ ببغداد. وأُمِّرَ على إرْبل شمس الدّين باتكين أمير البصرة؛ فسار إليها ورتَّب بها عارِضَ الجيش تاجَ الدِّين محمد بن صلايا العلويّ.

وفيها جاء مِن جهة الكامل عسكرٌ استولَوْا على مكّة، وهرب راجح بن قتادة.

وفيها فراغ دار الحديث الأشرفيّة، وفتحت ليلة نصف شعبان، وقرئ بها " البخاريّ " على ابن الزُّبَيْديّ، وسمعه خلائق. وكانت أوّلًا تُعرف بدار قايماز النّجميّ مولى نجم الدّين أيّوب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015