في ربيع الأَوَّل نزلت الفرنج عَلَى دِمياط، فبعث الملك العادل العساكر التي عنده بمرج الصُّفر إلى ابنه الملك الكامل، وطلب ابنه المُعَظَّم وَقَالَ لَهُ: قد بنيت هَذَا الطور وَهُوَ يكون سبب خراب الشَّام، وأرى المصلحة أن تخرّبه ليتوفر مَنْ فيه عَلَى حِفْظ دِمْياط. فتوقّف المُعظم، ثُمَّ أرضاه بمالٍ ووعدهُ ببلاد، فأجاب وأخلاه وخربه، وكان قد غرم عَلَى بنائه أموالًا لَا تحصى.
قَالَ ابن واصل: لَمَّا طالت إقامة جيوش الفرنج بمرج عكا، أشار عُقلاؤهم بقصْد الديار المصرية وقالوا: صلاح الدين إنما استولى عَلَى البلاد بتملُّكه مصر. فصمموا، وركبوا البحر إلى دمياط، فنزلوا عَلَى بَرِّ جِيزَتِها، وزحفوا عَلَى برج السلسلة، وَكَانَ مشحونًا بالرجال، وَكَانَ الكامل قد أقبل ونزل ببر دمياط، ودامَ الحصار والنزال أربعة أشهر، وجاءت الكامل النجداتُ -[276]- من الشَّام، ومات الملك العادل في وسط الشِّدَّة، واستراح.
وفي ربيع الآخر كسر الملك الأشرف ابن العادل ملكَ الروم كيكاوس. ثُمَّ جمع الْأشرف عساكره وعسكر حلب، ودخل بلد الفرنج ليشغلهم بأنفسهم عن قَصْد دِمياط، فنزل عَلَى صافيثا وحصن الْأكراد، فخرج ملك الروم ووصل إلى رَعْبان يريد أن يملك حَلَب، فنزل إِلَيْهِ الملك الْأفضل من سُمَيْساط، فأخذا رعْبان وتلّ باشر، فردّ الملكُ الأشرفُ إلى حلب، ونزل عَلَى الباب وبزاعة، وقدّم بين يديه العرب. وقدِم الرُّوم يعملون مَصَافًا مَعَ العرب فكسرهُم العربُ، وبعث الْأشرفُ نَجْدة من عسكره إلى دمياط.
وفي جُمَادَى الْأولى أخذت الفرنج من دمياط برج السِّلْسلة، فبعثَ الكاملُ يستصرخ بأبيه، فدقّ أَبُوه - لَمَّا بلغه الخبر - بيده، ومرض مرضة الموت.
قَالَ أَبُو شامة: وضربَ شيخُنا عَلَمُ الدين السَّخاوي بيدٍ عَلَى يد، ورأيته يُعَظِّم أمرَ البُرْج، وَقَالَ: هُوَ قُفْل الدِّيار المصرية. وقد رأيته وَهُوَ برج عالٍ في وسط النيل، ودمياط بحذائه من شَرْقيِّه، والجِيزةُ بحذائه عَلَى حافة النيل من غَرْبيِّه، وفي ناحيته سلسلتان، تمتدّ إحداهما عَلَى النيل إلى دمياط، والْأخرى عَلَى النيل إلى الجيزة، تمنعان عُبور المراكب من البحر المالح.
وفي جُمَادَى الآخرة التقى المُعَظَّم والفرنج عَلَى القَيْمون، فنصرهُ اللَّه، وقَتَل منهم خَلْقًا، وأسَرَ مائة فارس.
قَالَ: وفيها وصل رسولُ خُوَارِزْم شاه علاء الدين مُحَمَّد بن تكش إلى العادل، فبعث في جوابه الخطيبَ جمالَ الدين مُحَمَّد الدَّوْلَعيّ، والنَّجْم خليل قاضي العَسْكر، فوصلا إلى هَمَذان، فوجدا خُوارزم شاه قد اندفع من بين يدي الخطا والتَّتار، وقد خامَرَ عَلَيْهِ عَسْكره، فسارَ إلى بُخَارَى، فاجتمع المذكوران بولده جلال الدين، فأخبرهما بوفاة العادل الَّذِي أرسلهما. وَكَانَ الخطيب قد استناب ابنهُ يُونُس ولم تكن لَهُ أهليَّة، فوُلِّيَ الموفق عُمَر بن يوسف خطيب -[277]- بيت الآبار إلى أن يقدم الدولعي.
وفي رجب أدار الملك المُعَظَّم المُكوس والخُمور وما كَانَ أَبُوه أبْطَلَه، فَقِيلَ: إِنَّهُ ضَمَّنَ الخمر بدمشق والخنا بثلاثمائة ألف درهم. قَالَ أَبُو المُظَفَّر: فَقُلْتُ لَهُ: قد خلفت سيف الدين غازي ابن أخي نور الدِّين، فَإِنَّهُ كذا فعل لَمَّا مات نور الدين. فاعتذر بقلَّة المال ودفع الفرنج، ثُمَّ سار إلى بانياس، وراسل الصَّارمَ متولّي تِبنِين، بأن يُسَلِّم الحصونَ، فأجابه، وخَرّب بانياس وتبنين، وقد كانت قُفْلًا للبلاد وملجأً للعباد، وأعطى جميع التي كانت لسركس لأخيه العزيز عُثْمَان، وزَّوجه بابنة سركس، وأظهْرَ أَنَّهُ ما خَرَّب هذا إلا خوفاً من استيلاء الفرنج.
وبعث الكامل إِلَيْهِ يستنجد بِهِ، وعدَّى الفرنج دمياط، فأخلى لهم العساكر الخيامَ فطَمِعُوا، ثُمَّ عادَ عليهم الكامل فطحنهم وقتل خلقاً، فعادوا إلى دمياط.
وفيها تُوُفِّي صاحب الروّم كيكاوس، وَكَانَ ظالمًا، فاتكاً، جباراً فاسقاً.
وفيها تُوُفِّي الملك القاهر عز الدين مسعود بن رسلان بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب المَوْصِل، مسمومًا فيما قِيلَ، وترك ابنه محمودًا وَهُوَ صغير، فأخرجَ الْأميرُ بدرُ الدين لؤلؤ أخا القاهر زنكيًا من المَوْصِل، ثُمَّ استولى عليها، وتسمّى بالملك الرَّحيم، وَقِيلَ: إِنَّهُ أدخلَ محمودًا حَمّامًا حامِيًا حَتَّى اشتد كَرْبُهُ، فاستغاث: " اسقوني ماء، ثُمَّ اقتلوني "، فسقوه، ثم خنق.
وفيها عادَ السلطان خُوَارِزْم شاه مُحَمَّد إلى نَيْسَابُور، وأقامَ بها مُدَّة، وقد بلغه أَنَّ التّتار، خذلهم اللَّه تعالى، قاصدون مملكة ما وراء النهر، وجاءه من جنكس خان رسلٌ وهو محمود الخُوَارِزْمِي، وخَواجا عَليّ البُخاريّ، ومعهم من طُرَف هَدايا التُّرك من المِسْك وغيره، والرّسالة تشتمل عَلَى التَّهْنئة بسلامة خُوَارِزْم شاه، ويطلب منه المُسالمَة والهُدْنة، وَقَالَ: إِنَّ الخان الْأعظم يسلم عليك ويقول: ليس يخفى عليَّ عِظَمُ شأنك، وما بلغتَ من سُلطانك، ونفوذِ حُكمك عَلَى الْأقاليم، وَأَنَا أرى مُسالمتك من جملة الواجبات، وَأَنْتَ عندي -[278]- مثل أعزّ أولادي، وغير خافٍ عنك أنني ملكت الصِّين، وَأَنْتَ أخبرُ النَّاس ببلادي، وإنّها مثارات العساكر والخيول، ومعادن الذَّهَب والفِضَّة، وفيها كفاية عن طلب غيرها، فإن رَأَيْت أن نعقد بيننا الموَدَّة، وتأمر التّجّار بالسَّفر لتعمّ المصلحتين؟ فعلت. فأحضر السلطان خُوارزم شاه محمودًا الخوارزمي وقال: أنت منا وإلينا، ولا بد لك من مولاةٍ فينا. ووعده بالإحسان؛ إن صدقهُ، وأعطاه معضدة مجوهرة نفيسة، وشَرَطَ عَلَيْهِ أن يكون عَيْنًا لَهُ عَلَى جنكز خان، فأجابه، ثم قال له: اصدقني، أجنكز خان ملك طمغاج الصّين؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: ما ترى في المصلحة؟ قَالَ الاتفاق. فأجاب إلى ملتمس جنكز خان. قال فسر جنكز خان بذلك، واستمرّ الحال عَلَى المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجارٌ، وَكَانَ خال السلطان خُوَارِزْم شاه ينوب عَلَى بلاد ما وراء النَّهْر، ومعه عشرون ألف فارس، فَشرِهت نفْسُه إلى أمْوال التُّجَّار وكاتبَ السلطان يَقُولُ: إِنَّ هؤلاء القوم قد جاؤوا بزيِّ التُّجَّار، وما قصْدهم إِلَّا إفساد الحال وأن يجسّوا البلاد، فإن أذنت لي فيهم. فأذِنَ لَهُ بالاحتياط عليهم. وقبض عليهم، واصطفى أموالهم. فوردت رسل جنكز خان إلى خُوَارِزْم شاه تَقُولُ: إِنَّك أعطيت أمانك للتجار، فغدرتَ، والغدْرُ قبيحٌ، وَهُوَ من سلطان الإِسْلَام أقبحٌ، فإن زعمت أَنَّ الَّذِي فعلهُ خالُك بغير أمْرك، فسلِّمه إلينا، وإلا فسوف تشاهد مني ما تعرفني بِهِ. فحصل عند خُوَارِزْم شاه من الرُّعب ما خامر عقلهُ، فتجلَّد، وأمر بقتل الرُّسُل، فقُتلوا، فيا لها حركة لمَا هدَرَت من دماء الإِسْلَام؛ أجْرت بكل نُقطة سَيْلًا من الدَّم، ثُمَّ إِنَّهُ اعتمد، من التدبير الرَّديء لَمَّا بلغه سير جنكز خان إليه أنه أمر بعمل سور سمرقند، ثُمَّ شحنها بالرّجال، فلم تُغن شيئًا، وولّت سعادته، وقُضي الْأمر.
قَالَ المؤيد عماد الدين في " تاريخه ": قَالَ النسوي كاتبُ الإنشاء الَّذِي لخُوارزم شاه: مملكة الصِّين دورها ستة أشهر، وَهِيَ ستة أجزاء، كلّ جزء عَلَيْهِ ملك، ويحكم عَلَى الكُلِّ الخان الْأكبر يُقَال لَهُ الطرخان، وَهَذَا كَانَ معاصر خُوَارِزْم شاه مُحَمَّد، وقد ورث المُلْك كابرًا عن كابر، بل كافرًا عن كافر. -[279]-
وإقامته بطوغاج في وسط الصين. وَكَانَ دوشي خان أحد الستة متزوجاً بعمة جنكز خان الَّذِي فعل الْأفاعيل وأباد الْأمم. وجنكز خان من أمراء بادية الصين، وهم أهل شَرٍّ وعُتُوٍّ، فمات دوشي المذكور، فعمدت زوجته إلى ابن أخيها جنكز خان وقد جاءها زائرًا فملّكته، وَكَانَ الملِكان اللذان هما مجاوران لهم هما: كشلي خان، وفلان خان، فرضيا بجنكز خان، وعاضداه، فَلَمَّا أُنهي الْأمر إلى القان ألطور أنكر ولم يرضَ، واستحقر جنكز خان، فغضب لَهُ المذكوران وخرجا معه وعملوا المصافَّ، فانهزم ألطور خان وذلَّ، ثمّ طلب الصُّلح، فصالحوه، وقَوُوا واتفقوا، فمات أحدهما، ثُمَّ مات كشلوخان، وتملّك ولده، فطمع جنكز خان في الولد، وتمكّن وكثُر جُنده وهم المُغُل، وحارب الولد، وهزمه واستولى عَلَى بلاده، ثُمَّ نَفّذ رسولًا إلى خُوارزم شاه كما ذكرنا.