-سنة تسعين وخمسمائة

في ربيع الأول ولي مجاهد الدّين ياقوت الرومي شِحْنكيَّة بغداد، فأقام سياسة البلد وأخلاه من المفسدين.

وفيها كان الحرب بَيْنَ السّلطان شهاب الدّين الغوري ملك غَزْنَة وَبَيْنَ بنارس سلطان الهند. وذلك أن أَيْبك مملوك شهاب الدّين لما دخل عام أول الهندَ فأغار عَلَى الأطراف تنمَّر بنارس وغضب، وَهُوَ أكبر ملوك الهند.

قَالَ ابن الأثير: وولايته من حد الصين إلى بلاد ملاو طولًا، ومنَ البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عَرْضًا، فحشد وجمع وقصد الْإِسْلَام، فطلبه شهاب الدّين بجيوشه، فالتقى الجمعان عَلَى نهر ماجون. قَالَ: وكان مع الهندي سبعمائة فيل - كذا قَالَ ابن الأثير - قَالَ: ومنَ العسكر عَلَى ما قِيلَ ألف ألف نفس، ومن جملة عسكره عدة أمراء مسلمين كانوا فِي تِلْكَ البلاد. فصبر الفريقان، واشتد الحرب، وكان النصر لشهاب الدّين، وكثُر القتل فِي الهنود حَتَّى جافت منهم الأرض، وأخذ شهاب الدّين تسعين فيلًا. وَقُتِلَ بنارس ملك الهند، ولم يعرفه أحد، إلا أَنَّهُ كَانَ قَدْ شد أسنانه بالذَّهَب، فبذلك عُرِف.

ودخل شهاب الدّين بلاد بنارس وحمل من خزائنها ألفًا وأربعمائة حمل، وعاد إلى غَزْنَة. ومن جملة الفِيَلَة التي أخذها فِيل أبيض. حَدَّثَنِي بِذَلِك من رآه، فَلَمَّا عُرِضت الفِيَلَة عَلَى شهاب الدّين خدمت جميعها إلا الفيل الأبيض فَإنَّهُ لَمْ يخدم.

وفيها، فِي جُمادى الأولى، وصل رسول من خُوارزم شاه وصُحبته ابن -[719]- عَبْد الرشيد الَّذِي سار فِي رسالة الخليفة إلى خوارزم شاه يأمره بمحاربة المارق طُغرل السَّلْجُوقيّ. فمرض عَبْد الرشيد وأحس بالموت، فأمر ولده بالمسير إلى خوارزم شاه لأداء الرسالة، فقابل الرسالة بالسَّمْع والطاعة، وسار بجيوشه فحارب طُغرل وانتصر عليه، وهزم عساكره ونهب أمواله، وقتله، وحمل رأسه إلى بغداد صحبة رسوله، فأبرز للقيَّة الموكب، وأُتي بالرأس عَلَى رُمح، ودخل قاتله وَهُوَ شابٌّ تركيّ من أمراء خُوارزم شاه. وأوَّل كتابه: " الحمد للَّه الَّذِي جعل الملوك من أخلص المماليك عقيدة ونية، وأصحَّهم ولاء وعُبُودية، وأصفاهم سريرة وطَوِية.

وفيه: ولما وردت المراسيم بردع ذَلِكَ المارق المنافق، أرسل المملوك داعيًا لَهُ إلى الطريق اللّاحب، ومشيرًا عليه باعتماد الواجب، ليعود إلى طاعة الْإِمَام، وعارضًا عليه تجديد الْإِسْلَام، أَوِ الاستعداد للمصاف، والرجوع إلى حكم الاستئناف. وكان بالري، فزلف المملوك إِلَيْهِ في كتيبةٍ شهباء من جنود الإمام، مقنّعة بالزَّرَد المحبوك، مُحتفة بالملائكة، محفوفة بالملوك، يتألق حديدها، وتتذمر أُسودها، وهي كالجبل العظيم، والليل البهيم، خلفها السباع والذئبان وفوقها النسور والعقبان، وبين أيديها شخص المنون عريان، إلى أن وافت ذَلِكَ المخذول، وهو في جيش يُعجز عن الإحصاء، ويضيق عنهم الفضاء، فصب اللَّه عليهم الخذلان، لما تراءى الجمعان، وبرز الكفر إلى الْإِيمَان، فتلا المملوك: {قاتلوهم يُعذبهم اللَّه بأيديكُم}.

إلى أن قَالَ: " وأنفذ اللَّه حكمه فِي الطاغية، وعجَّل بروحه إلى الهاوية، وملك المملوك بلادهم ".

قَالَ ابن الأثير: وكان الخليفة قَدْ سيَّر نجدة لخُوارزم شاه، وسيَّر لَهُ مَعَ وزيره ابن القصاب خِلَع السَّلطنة، فنزل عَلَى فرسخٍ من هَمَذَان، فأرسل إليه خوارزم شاه بعد الوقعة يطلبه إِلَيْهِ، فَقَالَ مؤيَّد الدّين ابن القصاب: ينبغي أن تحضر أَنْت وتلبس خِلْعة أمير المؤمنين من خيمتي. وترددت الرُّسل بينهما، فَقِيل لخُوارزم شاه: إنها حيلة عَلَى القبض عليك. فرحل خُوارزم شاه ليأخذه، فاندفع بَيْنَ يديه، والتجأ إلى بعض الجبال. فامتنع بِهِ. -[720]-

وفيها عُزِل أَبُو المظفّر عُبَيْد اللَّه بْن يُونُس منَ الأستاذ داريَّة، وحُبِس إلى أن مات، وولي مكانه تاج الدّين أَبُو الفتح بن رزين.

وفيها قُبض عَلَى ألب غازي متولّي الحِلَّة وأُخذت أمواله، وَقُتِلَ جزاءً بما كذب عَلَى الأمير طاشتكين.

وفي رمضان أحضر مؤيد الدّين ابن القصاب وشافهه الخليفة بالوزارة، وقال له: يا مُحَمَّد قَدْ قلّدتك ما وراء بابي، وجعلته في ذمتك، فاعمل فيما تراه برأيك. وخلع عليه، وضُربت النّوبة عَلَى بابه عَلَى قاعدة الوزراء، ثُمَّ توجَّه إلى تُسْتَر، فافتتح بلاد خوزستان.

وَفِي شوال وقع الرضا عَنْ أولاد الشَّيْخ عَبْد القادر وأُخذ ابن الجوزيّ إلى واسط، فحُبس بها مدة خمس سنين.

وكان سلطان مصر فِي هَذِهِ السنة: الملك العزيز عماد الدّين عثمان ابن صلاح الدّين، وسلطان دمشق: الملك الأفضل نور الدّين علي ابن صلاح الدّين، وسلطان حلب: الملك الظاهر غياث الدّين غازي ابن صلاح الدّين، والكَرَك وناحيتها، حرَّان، والرُّها، وتلك الناحية بيد الملك العادل سيف الدّين أَبِي بَكْر، وحماه، والمَعَرَّة، وسَلَمية، ومَنْبِج بيد الملك المنصور محمد ابن تقي الدّين عُمَر بْن شاهنشاه، وبِعْلَبَكّ بيد الأمجد بِهْرام شاه بْن فَرُّخْشاه، وحمص بيد المجاهد أسد الدّين شيركوه.

وكان الملك العادل بالكَرَك عِنْد موت أَخِيهِ وهي مُسْتَقَرَّهُ وحصْنه، فتوجه نحو دمشق لما بلغه مجيء الملك الْعَزِيز يحاصر أخاه الأفضل، ووافقه الظاهر غازي، فأصلح بينهم عمُّهم، ورجع الْعَزِيز إلى مصر فِي رمضان منَ السنة الماضية. ثُمَّ إن الْعَزِيز قصد دمشق فِي هَذِهِ السنة في شعبان.

وقَالَ الْإِمَام أَبُو شامة: وفيها استعادت الفِرَنج حصن جبيل بمعاملة من شخص كرديّ.

قُلْتُ: ثُمَّ افتتحها الملك الأشرف بعد مائة سنة.

قَالَ: وفيها قدِم العادل منَ الشرق وطلع إلى قلعة حلب وبات بها -[721]- واستخلص دلدمر وبني عمه كبراء الباروقية منَ اعتقال ابن أَخِيهِ الملك الظاهر، ثُمَّ قدِم دمشق فأصلح بَيْنَ الأخوين الأفضل والعزيز، عَلَى أن للعزيز من بَيْسان إلى أسوان. وقدِم الظاهر من حلب إلى دمشق، ثُمَّ عاد كلّ إلى بلاده. وتزوج العزيز بابنة عمه العادل.

قُلْتُ: وَذَلِكَ من دهاء الملك العادل، فَإنَّهُ بقي يلعب بأولاد أَخِيهِ لعبًا، فَإنَّهُ قدِم من حلب بصاحبها، وبصاحب حماه ناصر الدّين مُحَمَّد بْن عُمَر، وبصاحب حمص، وَغَيْرُهُمْ، واتفقوا عَلَى حفْظ دمشق. وأوضح لهم العادل بإن الملك الْعَزِيز إنْ مَلَكَ دمشق أَخَذَ منكم بلادكم. فلما رأى العزيز اجتماعهم فتر وراسل فِي الصُّلح، فاستقرَّت القاعدة عَلَى أن يكون له مملكة فلسطين، وهي البيت المقدس وبلادها مَعَ مصر، عَلَى أن للعادل إقطاعه الأول بمصر، وأن يكون نائبًا للسلطنة بمصر. وأن للملك الأفضل دمشق والأردنّ، وأنّ للظاهر مملكة حلب مَعَ جَبَلَة واللّاذقيَّة. وتفرّقوا عَلَى ذَلِكَ. وخرج الأفضل فودَّع أخاه الملك الْعَزِيز.

قَالَ العماد الكاتب: قَالَ لي الأفضل: كُنْت قَدْ فارقت أَخِي منذ تسع سنين، وما التقينا إلا فِي هَذِهِ السنة. قَالَ: وأنشدني لنفسه فِي المعنى:

نظرتُكَ نظرةً من بَعْد تِسعٍ ... تقضَّت بالتفرُّق من سِنين

وغضّ الطَّرف عَنْهَا طرفٌ غدرٍ ... مسافة قرب طرفٍ من جبين

فَويح الدَّهْر لَمْ يسمحْ بقربٍ ... يعيدُ بِهِ الهجوعَ إلى الجُفُون

فراقٌا ثُمَّ يُعقبه بّينٌ ... يعيدُ إلى الحشا عَدَم السُّكون

ولا يُبدي جيوشَ القُربِ حَتَّى ... يرتبَ جيشَ بُعدٍ في الكمين

ولا يُدني محلّي منك إلا ... إذا دارتْ رَحى الحربِ الزَّبُون

فليتَ الدهرُ يسمحُ لي بأُخرى ... ولو أمضى بها حُكمَ المنون

فقلت: للَّه درُّك ما أبدع هَذَا المعنى، فكاتِبْ أخاك بما فيه استعطاف واستلطاف.

قَالَ العماد: فلو تُرِك الأفضلُ وفِطْنته الذكية، لجرت الأمور عَلَى -[722]- السّداد، ولكنّ أصحابه وجلساءه أفسدوا أحواله، ورموا أكابر أمرائه بالمكاتبة والخيانة، فوقعت الوحشة، وقالوا لَهُ: أَنْت أحق بالسلطنة، وأنت أكبر الإخوة، وأنت ولي عهد أبيك. فتفرَّق عَنْهُ كبراء دولته، وتوجهوا إلى الْعَزِيز. فكان إذا قدِم منهم أميرٌ بالَغَ فِي إكرامه، فأخذوا يحرضون الْعَزِيز عَلَى قصد دمشق. وأقبل الأفضل مَعَ هَذَا عَلَى الشُّرب والأغاني ليله ونهاره، وأشاع نُدَماؤه أن عمّه العادل حضر عنده ليلةً، وحسَّن لَهُ ذَلِكَ واستحسن المجلس، وقال: أَيِّ حاجةٍ لك إلى التكتُّم، ولا خير فِي اللذات دونها سِتْر. فقبل وصيَّة عمّه وتظاهر. ودبر وزيره الأمور برأيه الفاسد. ثُمَّ إن الأفضل أصبح يومًا تائبًا من غير سبب، وأراق الخمُور، وأقبل عَلَى الزُّهد، ولبس الخشِن وأكثر التّعبُّد. وواظب عَلَى صيام أكثر الأوقات، وشرع فِي نسْخ مُصحَف، وضرب أواني الشرب دراهم ودنانير، واتخذ لنفسه مجلسا مسجدًا وجالسَ الفقراء.

قَالَ ابن واصل، وغيره: ولكنه كان قليل السعادة، ضعيف الآراء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015