393 - أبو بكر بن إسماعيل الحراني الزاهد.

393 - أَبُو بَكْر بْن إِسْمَاعِيل الحراني الزاهد. [الوفاة: 571 - 580 هـ]

ذكره الحافظ عبد القادر فقال: كان من مفاريد الزمان. اجتمعت فِيهِ من خِلال الخير أشياء لو سُطِرت كانت سيرة. كان زاهدًا، ورِعًا، مجاهدًا، مجتهدًا، متواضعَا، ذا عزائم خالصة، بصيرًا بآفات أعمال الآخرة وعيوب الدنيا، ذا تجارب، ساح وخالط، وكان لَا تأخذه فِي اللَّه لومة لائم، منقادًا للحق، محبًا للخمول، عاريًا من تزيّ أهل الدين. ظاهرًا لَا يستوطن المواضع. كان تارة يكون مُعَممًا، وتارةً بغير عمامة، وتارة محلوقًا وتارة بشَعْر. إذا وقف بين جماعة لَا يعرفه الغريب، ولم يكن لَهُ فِي المسجد موضع يُعرف به. -[661]-

وكان إذا قَالَ لَهُ أحد: أريد أن أتوب على يدك. يقول: إيش تعمل بيدي، تُبْ إلى اللَّه.

وكان شجاعًا. وهو الَّذِي جرّأ المسلمين على محاصرة الرُّها فِي سنة تسع وثلاثين وخمس مائة، واشتهر بين الناس أنهم يوم وقعت الثلمة بالرها التي دخل منها المسلمون رأوا رجلًا قد صعِد فيها، فهزم من كان بها من الفرنج، وصعد الناس بعده، فحكي لي عن بعض الناس أنه الشَّيْخ أَبُو بَكْر رضي اللَّه عَنْهُ.

وبلغني أن ناسًا اختلفوا فِيهِ، فحلف بعضهم أنه الشَّيْخ عدي بْن صخْر، فاختلفوا إليه فِي ذلك، فقال: ذاك الحراني. سمعته يقول: كان أَبِي قد أسره الفرنج إلى الرُّها، فقادوه، وأخذوني وأخي رهينةً، يعني وهما صغيران؛ فكان صاحب البلد يأخذني ويجيء بي عند الصليب، ويجعل يُحني رأسي نحوه، فأمتِنع عَلَيْهِ مع هيبته، ويقع فِي نفسي أني إنْ فعلت صرت نصرانيًا، وكان يأخذ أخي فيجيء به إلى الصليب، ليسجد لَهُ، فأتعلق به وأمنعه. ثم إنه خلص من أيدي الفِرنج، فسمعته يقول: كنت أمر إلى الرُّها فِي الليل فأصعد إلى السور، وأنزل إلى البلد، فإذا عرفوا بي صعدت إلى السور، فإذا صرت على السور ومعي سيفي وترسي لا أبالي بأحدٍ. وصعدت مرةً إلى السور، فلقيت اثنين، قتلت الواحد ودخل الآخر إلى البرُج، فدخلت خلفه فقتلته.

سمعته غير مرةٍ يقول: رَأَيْت قائلًا يقول لي: كن تَبَعًا إلَّا فِي ثلاثة: في الزهد، والورع، والجهاد.

وحج نحوًا من ثلاثين حَجَّة ماشيًا. وبلغني عَنْهُ أنه حج في بعضها، ولم ينم فِي تلك المدَّة حتّى خرج من الحج. ثم إنه ترك الحج، وسكن مشهدًا قريبًا من حَران، واشتغل بعمارة رحى هناك. ورتب الضيافة لكل وارد خبزًا ولحمًا وشهوات، وكان سبب ذلك كما حكى لي، قَالَ: كنت أَنَا وآخر فِي الشام، فجعْنا جوعًا شديدًا، ثم جئنا إلى قريةٍ، فصنع لنا إنسان طعامًا وقدّمه إلينا، فجعلنا نأكله وهو حار، فلما رَأَى شَرَهَنَا فِي الأكل مع حرارته قَالَ: -[662]- أرِفقُوا فهو لكم. فأعتقد أنه لو كان لذلك الرجل ذنوب مثل الجبال لغُفِرت لِما صادف من إشباع جوعنا. فرأيت أن حجي ليس فِيهِ منفعة لغيري، وأني لو عملت موضعًا يستظل به إنسان كان أفضل من حجي، وكان مع ذلك يكره كثرة العلائق ويقول: لو قيل لي فِي المنام: إنك تصير إلى هذا الحال ما صَدَّقت.

وبنى عند المشهد خانًا للسبيل، وكان يعمل عامة نهاره فِي الحَر والغُبار، ويقول: لو أن لي من يعمل معي فِي الليل لعملت، وعمل لنفسه رحى، وكان يتقوَّت منه باليسير، ويُخرج الباقي فِي البِرّ.

دخلت عَلَيْهِ فِي بيته مِرارًا وهو يتعشى، فما رَأَيْته جالسًا فِي سِراج قط، وَلَا كان تحته حصير جيد قط وَلَا فِراش، بل حصير عتيق، تحته قش الرَز، وحضرت يومًا معه فِي مكانٍ، فلما حضر وقت الغداء جلسنا نتغدى، واخرج رغيفًا كان معه، فأكل نصفه، وناولني باقيه، وقال: ما بقي يصلح لي أن آكل شيئًا وَلَا أعمل شيئًا، وقال لي: وددت أني لآتي مكانًا لَا أخرج منه حتى أموت.

وسمعته يقول: وذكر لي إنسان أن بعض الرؤساء عرض عَلَيْهِ ملكًا يقفه عَلَيْهِ، فقال لَهُ أبو بكر: وأيش نعمل به، لو لم يكن فِي مالهم شُبْهة إلَّا الجاه لكفى.

سمعت فتيان بْن نياح الحراني، وكان عالِم أهل حَران وقد جرى بيننا ذِكر الكرامات فقال: أَنَا لَا أحكي عَن الأموات ولكن عَن الأحياء. هذا أَبُو بَكْر بْن إِسْمَاعِيل حج فِي بعض السنين، فلما قرُب مجيء الحاج جاء الخبر أن أَبَا بَكْر قد مات. فجلست محزونًا فجاءتني والدته وأنا فِي مكاني هذا، فسلمَتْ، فرددتُ عليها متحزْنًا، فقالت: إيش هُوَ؟ فقلت: هُوَ الذي يحكى، فقالت: ما هُوَ صحيح، قلت: من أَيْنَ لكِ؟ قَالَتْ: هُوَ قَالَ لي قبل أن يخرج إنه سَيَبْلُغُكِ أني قد مت، فلا تصدقي، فإني لا بد أجيء وأتزوج، وأرزقُ ابنًا وأموت، قال: فأول من جاء هُوَ، وتزوج ورُزق ابنًا، ومات، هذا مع كراهيته إظهار الكرامات والدعاوَى. -[663]-

وكان عاقلًا فِطنًا، يتكلم بالحكمة فِي أمر الدين، حدثني مَن حضر موته قَالَ: كُنَّا أَنَا وفلان وفلان، فتوضأ ثم صار يسأل عَن وقت الظُهر، فقال بعضنا: جرت عادة الناس يأخذون من آثار مشايخهم للتبرك. فقال: إن قبِلتم منّي لَا تريدون شيئًا من الدنيا، قال: فبينما أَنَا جالس أغفيت، فرأيت كأن البيت الَّذِي نَحْنُ فِيهِ يخرج منه مثل ألسُن الشمع، يعني النور. ورأيت كأن شيخًا قد جاء إلى عند الشَّيْخ أَبِي بَكْر، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا الشَّيْخ حمْد، فانتبهت فجعلت أسأل الجماعة عَن الشَّيْخ حمْد، ففِطن لي الشَّيْخ فقال: إيش تقول؟ فقصصت عَلَيْهِ الرؤيا، فقال: نعم، هذا الشَّيْخ حمْد بْن سُرور قد جاء إلينا. وكان الشَّيْخ حمْد من مشايخ حران، قال: ثم إنه ما زال يسأل عَن وقت الظُهر، حتى بقي من الوقت قدر قراءة جزء، ثم إنه تَفَلَ مثل النّفخة، فخرجت معها نفسُه وحُمِل إلى حَران فدُفن بها رضى الله عنه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015