-سنة تسع وسبعين وخمسمائة

فِي المحرَّم قدِم رسول ملك مازَنْدران، فتُلقي وأكرِم، ولم يكن لمرسله عادةٌ بمراسلة الديوان، بل الله هداه من غيّ هواه، وقدم هدية.

وفيه جاء رَجُل إلى النظامية يستفتي، فأفتى بخلاف غرضه، فسبَّ الشافعي، فقام إليه فقيهان، لَكَمَهُ أحدُهما، وضربه الآخر بنعله، فمات ليومه. فحُبِس الفقيهان أيامًا، وأطلقا عملًا بمذهب أبي حنيفة.

وفي جَمادى الأولى قبض عز الدين مَسْعُود صاحب الموصل على نائبه وأتابِكه مجاهد الدين قايماز، وكان هُوَ سلطان تلك البلاد فِي المعنى، وعز الدين معه صورة. ولكن انخرم عليه النظام بإمساكه وتعب، ثم إنه أخرجه وأعاده إلى رتبته.

وفي رَمَضَان جاء إلى صلاح الدين بالرسلية شيخ الشيوخ، وبشير الخادم.

وفي شوال فُرِغ من رباط المأمونية وفتح، أنشأته والدة الناصر لدين اللَّه، ومُدَّ به سماط، وحضره أرباب الدولة والقُضاة والأئمة والأعيان، ورتب شهاب الدين السُهْروردي شيخًا به، ووُقِفَتْ عَلَيْهِ الوقوف النفيسة.

وقدِم رئيس إصبهان صدر الدين عَبْد اللطيف الخجندي للحج، فتلقّي بموكب الديوان، وأقيمت لَهُ الإقامات. وزعيم الحاج فِي هذه السنين مجير الدين طاشتكين. -[482]-

ومن كِتَاب فاضلي إلى الديوان كان الفِرَنج قد ركبوا من الأمر نكرا، واقتضوا من البحر بكرا، وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد، وضربوا بها سواحل اليمن والحجاز، وأثخنوا وأوغلوا فِي البلاد، واشتدت مخافة أهل تلك الجوانب، بل أهل القِبلة، لما أومض إليهم من جلل العواقب.

وما ظن المسلمون إلَّا أنها الساعة، وقد نشر مطوي أشراطها، وانتظر غضب اللَّه لفناء بيته المحرَّم، ومقام خليله الأكرم، وضريح نبيّه الأعظم صلّى الله عليهما وسلّم. ورجوا أن تشحذ البصائر آية كآية هذا البيت إذ قصده أصحاب الفيل، ووكلوا إلى اللَّه الأمر، فكان حَسْبُهُم ونِعْم الوكيل.

وكان للفرنج مقصدان: أحدهما قلعة أيْلَة، والآخر الخوض فِي هذا البحر الَّذِي تجاوره بلادهم من ساحله. وانقسموا فريقين: أما الذين قصدوا أيلة فإنهم قدروا أن يمنعوا أهلها من مورد الماء، وأما الفريق القاصد سواحلَ الحجاز واليمن فقدروا أن يمنعوا طريق الحاج عَن حَجه، ويحول بينه وبين فَجه، ويأخذ تجار اليمن وكارم وعدن ويلم بسواحل الحجاز فيستبيح، والعياذ بالله، المحارم.

وكان الأخ سيف الدين بمصر قد عمر مراكب، وفرقها على الفرقتين، وأمرهم بأن تُطْوَى وراءهم الشُقَّتَين. فأما السائرة إلى قلعة أيلة فإنها انقضت على مُرابطي الماء انقضاضَ الجوارح على بنات الماء، وقذفتها قذف شهب السماء، وكسرت أكثر مقاتلتها، إلا من تعلق بهضبة وما كاد، أو دخل فِي شِعْب وما عاد؛ فإن العربان اقتصوا آثارهم، والتزموا إحضارهم.

وأما السائرة إلى بحر الحجاز فتمادت فِي الساحل الحجازي، فأخذت تُجارًا، وأخافت رفاقا، ودلها على عورات البلاد من هُوَ أشد كُفْرًا ونفاقا. وهناك وقع عليها أصحابُنا، وأُخذت المراكب بأسرها، وفر فِرَنْجُها، فسلكوا في الجبال مهاوي المهالك، ومعاطن المعاطب.

وركب أصحابنا وراءهم خيل العرب، يقتلون ويأسرون، حتى لم يتركوا مُخْبِرًا، ولم يُبقُوا لهم -[483]- أثرًا " وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا "، وقيّد منهم إلى مصر مائة وسبعون أسيرًا.

وفي المحرَّم نزل صلاح الدين على حلب، ثم تسلمها صلحًا.

وَفِيهَا سار شهاب الدين الغوري بعد ما ملك جبال الهند، وعَظُم سلطانه إلى مدينة لهاوور فِي جيش عظيم وبها السلطان خُسرُوشاه بْن بهرام شاه السُبكتِكِيني الَّذِي كان صاحب غَزنة من ثلاثين سنة، فحاصره مدة، ثم نزل بالأمان فاكرمه ووفى لَهُ.

فورد رسول السلطان غياث الدين إلى أخيه يأمره بإرسال خُسرُوشاه إليه، فقال لَهُ: أَنَا لي يمين فِي عُنقك. فطيب قلبه ومَنَّاه، وأرسله هُوَ وولده، فلم يجتمع بهما غياث الدين بل رفعهما إلى بعض القلاع، فكان آخر العهد بهما. وهذا آخر ملوك بني سبكِتِكين. وكان ابتداء دولتهم من سنة ست وستين وثلاثمائة، فتبارك الله الذي لا يزول ملكه.

وَفِيهَا عاد شَيْخ الشيوخ وبشير من الرسْلية، ومعهما رسول صلاح الدين بتقدمتين كان منها شمسة، يعني جترا، وهي مصنوعة من ريش الطواويس، لم يُرَ فِي حُسْنها، وعليها اسم المستنصر بالله مَعَد العبيدي.

وتوفي الخلال أبو المظفر ابن البخاري نائب الوزارة، فولي مكانه حاجب باب النوبي عز الدين أبو الفتح بن صدقة. وولي الحجابة أحمد بن هبيرة.

وعاد إلى الشام شَيْخ الشيوخ وبشير على الفَور، فمرِضا، وطلبا الرجعة إلى العراق، فقال صلاح الدين: أقيما. فلم يفعلا، وسارا فِي الحر، فماتا في الرحبة.

ونازل السلطان حلب، وحاصرها أشد حصار، ثم وقع الصُلْح بين صاحبها عماد الدين وبين السلطان، على أن يعوضه عَنْهَا سِنْجار ونصيبين والرقة وسَرُوج والخابور. وتسلم حلب فِي ثاني عشر صفر. وفيه يقول القاضي محيي الدين ابن القاضي زكي الدين ابن المنتجب يمدحه بأبيات منها:

وفَتْحكُمُ حَلَبًا بالسيف فِي صَفَر ... مبشِّرٌ بفُتُوحِ القدس في رجب -[484]-

وقد ذكر صاحب " الرَوْضَتَين " أن الفقيه مجد الدين بن جهبل الحلبي الشافعي وقع إليه " تفسير القرآن " لأبي الحكم بْن بُرجان، فوجد فِيهِ عنَد قوله تعالى: " الم. غلبت الروم " - أن الرُوم يُغلبون فِي رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ويفتح بيت المقدس، ويصير دارًا للإسلام إلى آخر الأبد. واستدل بأشياء فِي كتابه.

فلما فُتحت حلب على يد السلطان صلاح الدين كتب إليه المجد بن جهبل ورقة يبشره بفتح القدس على يديه، ويعين فيه الزمان، وأعطاها للفقيه عيسى. فلم يتجاسر أن يعرضها على السلطان، وحدث بما فِيهَا لمحيي الدين، وكان واثقًا بعقل المجد وأنه لَا يقول هذا حتّى يحققه، فعمل القصيدة التي فِيهَا هذا البيت.

فلما سمعه السلطان بُهِت وتعجب، فلما اتفق لَهُ فتح القدس في رجب سار إليه المجد مهنئًا، وذكر لَهُ حديث الورقة، فتعجب وقال: قد سبق إلى ذلك محيي الدين، غير أني أجعل لك حظًا.

ثم جمع لَهُ مَن فِي العسكر من الفُقَهاء والصُلحاء، ثم أدخله بيت المقدس والفِرَنج بعدُ فِيهِ لم يُنظف منهم، وأمره أن يذكر درسًا على الصَّخْرة. فدخل ودرس هناك، وحظي بذلك.

ثم قَالَ أَبُو شامة: وقفت أَنَا على ما فسره ابن برّجان من أن بيت المقدس استولت عَلَيْهِ الروم عام سبعةٍ وثمانين وأربعمائة، وأشار إلى أنه يبقى بأيديهم إلى تمام خمسمائة وثلاثٍ وثمانين سنة.

قال أَبُو شامة: وهذا الَّذِي ذكره أَبُو الحَكم من عجائب ما اتفق. وقد تكلم عَلَيْهِ شيخنا السخَاوي، فقال: وقع فِي " تفسير " أَبِي الحَكَم أخبار عَن بيت المقدس، وأنه يُفْتَح فِي سنة ثلاثٍ وثمانين. قال: فقال لي بعض الفُقهاء: إنه استخرج ذلك من فاتحة السُورة. فأخذتُ السُورةَ، وكشفتُ عَن ذلك، فلم أره -[485]- أخَذَ ذلك من الحروف، وإنما أخذه فيما زَعَم من " غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سنين " فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون، ثم ذكر أنهم يغلبون فِي سنة كذا، وفي سنة كذا، على ما تقتضيه دوائر التقدير.

وهذه نجامة وافقت إصابة إنْ صح أنه قَالَ ذلك قبل وقوعه، وليس ذلك من الحروف، وَلَا هُوَ من قبيل الكرامات؛ فإنّ الكرامة لاتكتسب، وَلَا تفتقر إلى تاريخ، ولذلك لم يوافق الصواب لما أراد الحساب على القراءة الأخرى الشّاذّة وهي "غلبت" بالفتح، ويوضح ذلك أنه قال في سورة القَدْر: لو عُلِم الوقتُ الَّذِي نزل فِيهِ القرآنُ لعُلِم الوقتُ الَّذِي يُرفع فِيهِ. فهذا ما ذكره.

ومن كِتَاب إلى الديوان: أشقى الأمراء من سمن كيسه وأهزل الخلْق، وأبعدهم مِن الحق من أخذ المكْس وسماه الحق. ولما فتحنا الرِّقة أشرفنا على سُحْتٍ يؤكل، وظُلْمٍ مما أمر الله به أن يقطع، وأمر الظالمون أن يوصل - فأوجبنا على كافة الولاة من قِبَلنا أن يضعوا هذه الرسوم بأسرها، ويلقوا الرعايا من بشائر أيام ملكنا بأسرها، وتعتق الرقّة من رقها، وتُسَد هذه الأبواب وتُعطل، وتُنْسَخ هَذه الأمور وتبطل، ويعفى خبر هذه الضرائب من الدواوين، ويسامح بها جميعها جميع الأغنياء والمساكين مسامحة ماضية الأحكام، دائمة الخلود، خالدة الدوام، تامّة البلاغ، بالغة التمام، ملعونا من يطمح إليها ناظِرُه.

ومنه: وإذا ولاه أمير المؤمنين ثغرًا لم يثبت فِي وسطه، ولم يقم فِي ظل غُرَفِه، بل يبيت السّيف له ضجيعًا، ويصبح ومعترك الحرب له ربيعًا، لا كالذين يغبون أبواب الخلافة إغباب الاستبداد، ولا يؤامرونها فِي تصرُفاتها مؤامرة الاستعباد، وكأن الدنيا لهم إقطاع لَا إيداع، وكأن الإمارة لهم تخليدٌ لا تقليد.

وكأن السلاح عندهم زينة لحامله ولابسه، وكأن مال الله عندهم وديعة لا عذر لمانعه ولا لحابسه. وكأنهم في البيوت الدّمى في لزوم خدورها، لا في مستحسنات صورها. راضين من الدّين بالعروة اللقبية، ومن إعلاء كلمته -[486]- بما يسمعونه على الدرَجَات الخشبية، ومن جهاد الخوارج باستحسان الأخبار المُهَلبية، ومن قتال الكفار بأنه فرض كفاية، تقوم به طائفةٌ فيسقط عن الأخرى.

وَفِيهَا سارَ السلطان بجيوشه إلى الكَرَك فحاصرها، ونصب عليها المجانيق. ثم جاءته الأخبار باجتماع الفِرَنج، فترك الكَرَك، وسار إليهم بعد أن كان أشرف على أخْذِها، فخالفوه فِي الطريق إلى الكَرَك، وأتوا إليها بجموعهم. فسار إلى نابلس، ثم إلى دمشق.

وأعطى أخاه نائب مِصْر الملكَ العادل سيفَ الدين حلب وأعمالها، فإنه ألحّ عليه فِي طلبها. فَسَارَ إليها، وانتقل منها الملك الظاهر غازي، وقدم على والده. وبعث السلطان ابْن عمه الملك المظفر تقي الدين عُمَر صاحب حماه على نيابة الديار المصريّة موضع الملك العادل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015