164 - مُحَمَّد بْن عَبْد الملك بْن عَبْد الحميد، أَبُو عَبْد اللَّه الفارقيّ الزّاهد، [المتوفى: 564 هـ]
نزيل بغداد.
ذو العبارات الفصيحة، والمعاني الصّحيحة، المُعرِض عَنْ زخارف الدُّنيا، المُقبِل عَلَى العِلم والتَّقوى، كذا قَالَ فِيهِ ابن النّجّار.
وقال: قدِم بغدادَ فِي صِباه فاستوطنها. وكان يتكلَّم عَلَى النّاس كلّ جمعة بعد الصّلاة بجامع القصر، يجلس عَلَى آجرتين، ويقوم إذا حميَ الكلام. وسُئل أن يُعمل لَهُ كُرسيّ، فأبى ذَلِكَ. وكان يحضر مجلسه العلماء والأعيان، ويتكلّم عَلَى لسان أهل الحقيقة بلسان عذْب، وكلامٍ لطيف، ومنطْق بليغ، فانتفع بِهِ خلْقٌ كثير. وكان من أولياء اللَّه وأصفيائه، لَهُ المقامات، والرياضات، والمجاهدات. دوَّن كلامه أَبُو المعالي الكُتُبيّ فِي كتاب مُفْرَد. روى لي عَنْهُ ابن سُكَيْنَة، وابن الحُصْريّ. وكان شيخًا مليح الصورة، ذا تجمل في ملبوسه وبيته قفر.
وقال ابن الجوزيّ: كَانَ مُحَمَّد الفارقيّ يتكلَّم عَلَى النّاس قاعدًا، وربّما قام عَلَى قدميه فِي دار سيف الدّولة من الجامع. وكان يُقال إنّه يحفظ كتاب " نهج البلاغة " ويغيرّ ألفاظه. وكانت لَهُ كلمات حِسان فِي الجملة.
وقال أَبُو المحاسن الْقُرَشِيّ: قدِم بغداد فِي صِباه، وسمع من جعفر السّرّاج، وانقطع إلى الخلْوة والمجاهدة والعبادة إلى أن لاحت لَهُ إمارات القبول. وكان العلماء والفُضَلاء يُقْصِدونه ويكتبون كلامه الذي هو فوق الدر. وكان متقلّلًا، خشِن العِيش. -[329]-
وقال ابن الدَّبِيثيّ: كَانَ يتكلَّم عَلَى النّاس كلّ جمعة من غير تكلُّف ولا رويَّة والناس يكتبون.
وقال أبو أحمد ابن سكينة الأمين: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللَّه الفارقيّ يَقُولُ: المحبَّة نار، زِنادُها جمال المحبوب، وكِبِرْيتها الكَمَد، وخزّانها حرق القلوب، ووَقُودُها الفؤاد والكَبِد.
قَالَ: وسمعته يقول: المحب بسطوة سلطان الجمال مغلوب، وبحُسام الحُسْن مضروب، مأخوذ عَنْهُ، مسلوب. نجْمُ رغبته غاربٌ عَنْ كلّ مرغوب، طالع في أفق العيوب، مصباح حبه يتوهج في رجاجة وجده بنار الوله بالمحبوب، شهاب شوقه وكمده في قلبه وكبده ساطع الألهوب.
وقال يحيى بْن القاسم التِّكْريتي: سَمِعْتُ الشَّيْخ محمدا الفارقي يقول: الدني الهمة عبد شَهْوته مستخدم فِي اصطبل طبْعه يخدم كَوْدَن كبره، وأتان تيهه، وحمار حرصه، جواد همه مقيد بقيود دنائه. قد وضع على قدميه شبحة شحه فمنعت من الجري فِي حلبة المكارم، وجعل عَلَى ظهره جل الذل منسوجًا من الصّفات الذّمائم.
ثمّ قَالَ يحيى: حكى لي أَبُو الفتح مَسْعُود بْن مُحَمَّد البدريّ قَالَ: دخل يوسف بْن مُحَمَّد بْن مقلد الدّمشقيّ عَلَى الشَّيْخ مُحَمَّد الفارقيّ ومعه فقراء، فلما ظهر الفقراء إلى الشَّيْخ لحِقَهم وَجْد، فصاحوا، فرفع رأسه وقال: لا تخبزوا فطيرًا، فإنّ الفطير يوجع الفؤاد.
وقال ابن النّجّار: قرأت عَلَى يوسف بْن جبريل بالقاهرة، عَنِ القاضي أَبِي البركات مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن مُحَمَّد الْأَنْصَارِيّ قال: أخبرنا الْإِمَام الزّاهد العارف أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن عَبْد الملك الفارقيّ بقراءتي، ولم أر ببغداد من يدانيه في فضله ويضاهيه، وهو المتكلم بالعراق، قال: حدثنا شيخنا أبو البقاء المبارك ابن الخلّ، فذكر حديثًا.
قلت: ابن الخلّ هُوَ والد الفقيه أبي الحسن، وصوفي زاهد، ذكرناه في سنة عشرين وخمسمائة. -[330]-
وقال القاضي عُمَر بْن علي الْقُرَشِيّ: مُحَمَّد بْن عَبْد الملك الفارقيّ العارِف، قدِم بغداد قديمًا، وسمع بها من جَعْفَر السّرّاج. كذا قَالَ القاضي.
قَالَ: وانقطع إلى الخلْوة والمجاهدة، والعبادة، واستعمل الإخلاص فِي أعماله إلى أن تحقق جريان الحكمة من قلبه على لسانه، فكان الفُضَلاء يقصدونه ويكتبون كلامه الَّذِي يفوق الدُّرّ. وجرى على طريقة واحدة في اختيار الفقر والتقلل والتخشن، ورد ما يفتح به إلا القليل من الآحاد.
ولد سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
قَالَ ابن الدَّبِيثيّ: روى لنا عَنْهُ جماعة. وتُوُفّي فِي رجب عَنْ سبْعٍ وسبعين سنة.