369 - هبة اللَّه بْن صاعد بْن هبة اللَّه بْن إِبْرَاهِيم، أمين الدّولة، أبو الْحَسَن ابن التلميذ النصراني، المسيحي، البغدادي، [المتوفى: 560 هـ]
شيخ الطب، بقراط عصره، وجالينوس زمانه، وشيخ النَّصارى لعنهم اللَّه وقِسِّيسهم.
ذكره العماد فِي " الخريدة " فيا ما بالغ في وصف هذا الخنزير، ومما قال: هو سلطان الحكماء، ومقصد العالم في علم الطّبّ.
وقال الموفق أَحْمَد بْن أَبِي أصَيْبَعة فِي " تاريخه ": ابن التّلميذ أوحد -[181]- زمانه في صناعة الطب، وفي مباشرة أعمالها ويدلّ على ذلك ما هُوَ مشهورٌ من تصانيفه وحواشيه على الكُتُب الطّبّيَّة، وكان ساعور البيمارستان العضدي ببغداد إلى حين وفاته. سافر فِي صِباه إلى العجم، وبقي بها فِي الخدمة زمانًا. وكان يكتب خطًّا منسوبًا، خبيرًا باللّسان السُّرْيانيّ واللّسان الفارسيّ واللّغة، وله نَظْمٌ حَسَن ظريف وترسل كثير، وكان والده أبو العلاء صاعد طبيبًا مشهورًا. وكان أمين الدّولة، وأبو البركات أوحد الزّمان فِي خدمة المستضيء بأمر اللَّه، وكان أوحد الزّمان أفضل من أمين الدّولة فِي العلوم الفلسفيَّة، وله فيها تصانيف. وكان الآخر أبصَرَ بالطب، وكان بينهما عداوة، لكن كان ابن التّلميذ أوفر عقلًا، وأجود طباعًا.
وقال ابن خلكان: وكان أوحد الزمان، واسمه هبة اللَّه بْن عليّ بْن مَلْكا، يهوديًّا فأسلم فِي آخر أيّامه، وأصابه الجذام فعالَجَ روحه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوعها، فبالَغَتْ فِي نهشه، فبرئ من الجذام وعَمى، فعمل ابن التلميذ:
لنا صديق يهودي من حماقته ... إذا تكلم تبدو فِيهِ مِن فِيهِ
يتِيهُ والكلبُ أعلى منه مَنْزِلَةً ... كأنّه بعدُ لم يخرجْ من التِّيهِ
وقال الموفّق عَبْد اللّطيف بْن يُوسُف: كان ابن التّلميذ كريم الأخلاق، عنده سخاء ومُرُوءة، وأعمال فِي الطَّبِّ مشهورة، وحُدُوس صائبة، منها أنه أدخل إليه رجل منزف يعرق دمًا في الصيف فيسأل تلاميذه، وكانوا قدر خمسين، فلم يعرفوا المرض، فأمره أنّ يأكل خُبْز شعير مع باذنْجان مَشْويّ، ففعل ذلك ثلاثة أيّام، فبرئ، فسأله أصحابه عن العّلة، فقال: إن دمه قد رقّ، ومَسَامَّهُ تفتَّحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم ويكثف المسامّ.
قال: ومن مُرُوءته أنّ ظهر دارهِ كان يلي النظاميَّة، فإذا مرض فقيه نقله إليه، وقام في مرضه عليه فإذا أبل وهبه دينارين وصرفه.
وقال الموفَّق بْن أبي أُصَيْبعة: وكان الخليفة قد فوض إليه رياسة الطب، فلما اجتمعوا إليه ليمتحنهم، كان فيهم شيخٌ له هيئةٌ ووَقَارٌ فأكرمه، وكان للشيخ دربة ما بالمعالجة من غير عِلْم. فَلَمّا انتهى الأمر إليه قال له ابن -[182]- التلميذ: لم لا شاركتم الجماعة في البحث لنعلم ما عندكم من هذه الصناعة؟ فقال: وهل تكلّموا بشيء إلا وأنا أعلمه، وسبق إلى فهمي أضعافه؟! قال: فَعَلَى مَن قرأتم؟ قال: يا سيدنا إذا صار الإنسان إلى هذا السن ما يبقى يليق به إلا أنّ يُسأل: كم لكم من التّلاميذ. قال: فأخبِرْني ما قرأتَ من الكُتُب؟ قال: سبحان اللَّه! صرنا إلى حدّ الصبيان، أيقال لمثلي هذا؟ إنما يقال لي: ما صنفتم فِي الطّبّ؟ وكم لكم من الكُتُب والمقالات؟ ولا بدّ أنّ أُعرِّفَك بنفسي. ثم دنا إلى أُذُن أمين الدّولة وقال له سرًا: اعلم بأنني قد شخت وأنا أوسم بالطّبّ، وما عندي إلا معرفة اصطلاحات مشهورة، وعمري كله أتكسب بهذا الفن، ولي عائلة، فسألتك بالله يا سيدنا أن تكاسر عني ولا تفضحني بين الجماعة. فقال: عليّ شرط أنّك لا تهجم على مريضٍ بما لا تعلمه ولا تشير بفصد ولا بإسهال إلا لما قرب من الأمراض. فقال الشَّيْخ: هذا مذهبي مُذْ كنتُ وما تعديت شراب الليمون والْجُلاب. فقال ابن التّلميذ للجماعة جَهْرًا: يا شيخ ما كنّا نعرفك فاعذُرنا والآن قد عرفناك، فاستمر فيما أنت فيه.
وقال ابن أبي أُصَيْبَعة: حَدَّثَني سَعْد الدِّين بن أبي السهل البغدادي العواد، قال: رَأَيْت ابنَ التّلميذ، وكان يحبّ صناعة الموسيقى، وله مَيْلٌ إلى أهلها، وكان شيخًا رُبْع القامة، عريض اللّحية، حُلْو الشّمائل، كثّير النّادرة.
ومن شعر ابن التّلميذ:
لو كان يحسِن غُصْن البان مشيتها ... تأودًا لمشاها غيرَ محتّشِمِ
فِي صدْرها كوكبا نورٍ أَقَلَّهُما ... ركنان لم يقربا من كف مستلم
صانتهما في حريم من غَلائِلها ... فنحن فِي الحِلّ والرّكْنان فِي الحَرَمِ
وله:
عانَقْتُها وظلامُ اللّيل مُنْسَدلٌ ... ثُمَّ انتبهت ببرد الحلي في الغلس
فصرت أحميه خوفًا أن ينبهها ... وأتّقي أنْ يذوب العِقْد من نَفَسِي
وله:
أكثر حسو البيض كيما ... يستقيم قيام أيرك
ما لا يقوم ببيضتيك ... فلا يقوم ببيض غيرك -[183]-
وله من الكتب أقراباذين وهو مشهور تداوله الناس، وآخر اسمه " الموجز " صغير، " واختيار كتاب الحاوي للرازي "، " اختصار شرح جالينوس لفصول أبقراط "، " شرح مسائل حنين "، " كناش "، " مختصر الحواشي على القانون لابن سينا "، " مقالة فِي الفَصْد "، وتصانيف سوى ذلك.
وتُوُفيّ فِي الثامن والعشرين من ربيع الأول، وله أربعٌ وتسعون سنة، لا رحمه اللَّه، وخلّف أموالًا جزيلة، وكُتُبًا فائقة، ورثه ابنه، ثُمَّ أسلم ابنه قبل موته، وعاش نحوًا من ثمانين سنة، وخنق فِي داره، وأُخِذ ماله، ونُقِلَت كُتُبُه على اثني عشر حمالا.
وكان أمين الدولة قد قرأ الطّبّ على أبي الْحَسَن سَعِيد بْن هبة اللَّه صاحب المصنّفات.
وذكر الموفّق عَبْد اللّطيف أنّ ولدَ أمين الدّولة كان شيخه فِي الطّبّ، وأنّه انتفع به، وقال: لم أر من يستحق اسم الطّبّ غيره، خنق في دهليزه.
قلت: ومن أقارب أمين الدولة الأجل الحكيم: