-سنة أربع وخمسين وخمسمائة

فيها وصل ترشك فلم يُشعر به إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه كفن، فوقع الرضا عنه.

وفيها عاد الغُزّ ونهبوا نيسابور، وكان بها ابن أخت سنجر، فهرب إلى جرجان.

وفيها سافر الخليفة إلى واسط، فرماه فرسه، وشج جبينه بقبيعة السيف.

ووقع بَرد كبار أهلك أماكن، وذُكِر أنّه كان فِي البَرَد ما وزْنه خمسة أرطال ونحو ذلك، وقيل إنّهم رأوّا بَرَدَة فيها تسعة أرطال.

وفيها كان الغرق ببغداد، ووقع بعض سورها، وسقطت الدُّور، قال ابن الْجَوْزِيّ: لم نعرف درْبَنَا إلا بمنارة المسجد، فإنّها لم تقع. وغرقت مقبرة الإمام أَحْمَد، وخرجت الموتى على وجه الماء، وكانت آية عجيبة.

وفيها سار عَبْد المؤمن فِي نحو مائة ألف فنازل المَهْدية، فحاصرها برًّا وبحرًا سبعة أشهر، وأخذها بالأمان. وركب الفرنج فِي البحر قاصدين صَقَلِّية فِي الشّتاء، فغرق أكثرهم. وكان ملك الفرنج قال: إن قتل عَبْد المؤمن نصارى المهديَّة فلأقتلنّ من عندي من المسلمين بصَقَلّية، ولعلّ أكثر رعيته بصقلية -[17]- مسلمون، فأهلك اللَّه النّصارى بالغرق، وكان مدَّة ملكهم للمهديَّة اثنتي عشرة سنة، ودخلها عَبْد المؤمن يوم عاشوراء سنة خمس فبقي بها أيامًا، وكان قد افتتح قبلها تونس، فنازلها أسطولُه فِي البحر ستّون شينيًّا، وأخذها بالأمان على مشاطرة أهلها أموالهم، لكونه عرض عليهم أوّلًا التّوكيد والأمان، فأبوا عليه. وبعدها افتتح المهدية.

وكان رئيس نَيْسابور هُوَ نقيب العلويّين ذُخْر الدين زيد بن الحسين الحسيني، فقتل بعض أصحابه أبو الفتوح الفستقانيّ الشافعيّ، فبعث إلى رئيس الشّافعيَّة مؤيَّد الدِّين الموفقي يطلب منه القاتل ليقتصّ منه، فامتنع المؤيَّد وقال: إنما حكمك على العَلَويَّة، فخرج النّقيب وقصد الشّافعيَّة، فاقتتلوا وَقُتِلَ جماعة، وأحرق النقيب سوق العطارين وسكة معاذ، وعظُم البلاء. ثُمَّ جمع المؤيَّد جموعًا وجيّش، والتقى هُوَ والعلويَّة فِي شوّال سنة أربع، واشتد الحرب، وأحرقت المدارس والأسواق، واستحر القتل بالشّافعية، فالتجأ المؤيَّد إلى قلعة فرخك، وخربت نَيْسابور بسبب هذه المصيبة الكبرى. وأمّا المؤيد أي أبه الأمير فإنه جرت لَهُ فصول وأسر، ثُمَّ هرب، وقدِم نَيْسابور، فنزل إليه المؤيِّد رئيس الشّافعيَّة، وتحصّن العَلَويّ بنَيْسابور، واشتدّ الخَطْب على المُعَتَّرِين الرّعية، وتمنّوا الموت، وسُفِكت الدّماء، وهُتِكت الأستار، وخرّبوا ما بقي من البلد، وبالَغَ الشّافعيَّة فِي الانتقام، وخرّبوا مدرسة الحَنَفِيَّة، واستؤصلت نَيْسابور، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

هذا ملخص ما ذكره ابن الأثير في كامله.

ومرض نور الدِّين فِي آخر الماضية وأوّل سنة أربع وضعف، فعهد بالأمر من بعده لأخيه قُطْب الدِّين مودود صاحب الموصل. وقال: ابن أخي أمير ميران لا أرتضيه لمصالح المسلمين لسوء أفعاله وأخلاقه. فحلفت الأمراء وكاتب جماعة من الكبار أمير ميران يحثُّونه على المجيء ليستولي على الشّام، فبادر وقطع الفُرات، فبعث أسد الدِّين عسكرًا فردّوه. وبلغ صاحبَ الموصل الخبرُ، فبعث وزيره كمال الدِّين مُحَمَّد بْن عليّ الجواد، فدخل دمشق في -[18]- أحسن زِيّ، وأبهى تَجَمُّل، وهو حميد الخِلال، كثير الإنفاق فِي وجوه البِرّ فصادف نور الدين قد عوفي.

وجاءت بدمشق زلازل مهولة صعبة، فسبحان من حركها وسبحان من سكنها.

وصالح نور الدِّين ملك الروم القادم من القسطنطينية وأجيب ملك الروم إلى ما التمسه من إطلاق مقدَّمي الفرنج، فأطلقهم نور الدِّين، فبعث لنور الدِّين عدَّة أثواب مثمّنة وجواهر، وخيمة من الدّيباج، وخَيْلًا، وردّ إلى بلاده، ولم يؤذ أحدًا. واطمأن المسلمون.

وجاء الخبر إلى دمشق بأنّ الملك نور الدِّين صنع لأخيه قُطْب الدِّين ولجيشه الَّذِين قدموا للجهاد فِي يوم جمعة سِماطًا عظيمًا هائلًا، تناهى فِيهِ بالاستكثار من ذَبْح الخيل والبقر والأغنام، بحيث لم يُشاهَد مثلُه، وقام ذلك بجملةٍ كثيرة. وفرَّق من الخيل العربيَّة جملة، ومن الخِلَع شيئًا كثيرًا. وكان يومًا مشهودا. ثُمَّ توجّه إلى حرّان وانتزعها من يد أخيه أمير ميران، وسلّمها إلى الأمير زين الدِّين عليّ إقطاعًا له.

إلى هنا زدْتُه من " تاريخ ابن القلانسي ".

وفيها جمع ملك الروم جَمْعًا عظيمًا، وقصد الشّام، فضاق بالمسلمين الأمر، فنصر اللَّه تعالى، وأسر ابن أخت ملكهم، وغنمهم المسلمون، وعادوا خائبين.

وفيها مات مُحَمَّد شاه ابن السّلطان محمود الذي حاصر بغداد. مات بهمذان.

قال عَبْد المنعم بْن عُمَر المغربي فِي أخبار ابن تُومَرْت: وفي سنة أربع وخمسين توجّه أمير المؤمنين عَبْد المؤمن إلى بلاد إفريقية، فتجهز فِي مائة ألف فارس مُحصاةٍ فِي ديوانه، ومعهم من السُّوقة والصُّنّاع والأتباع أضعافهم مِرارًا.

قال: وكان هذا الجمع الحفل يمشون بين الزُّرُوع فِي الطُّرُق الضّيّقة، فلا يكسرون سُنْبلة، ولا يطؤونها من هيبة الأمير، وكان خيامهم وأسواقهم مسافة فرسخين، وكلّهم يصلّون الخَمْس وراء إمامٍ واحد بتكبيرةٍ واحدة، ولا يتخلّف -[19]- أحدٌ عن الصّلاة إذا قامت، كائنًا من كان من أصناف الجيش والسُّوقة وغيرهم. وكان عَبْد المؤمن يسير وحده منفردًا أمام الجيوش ليس معه فارس إلا ابنه وليّ عهده وراءه. وحوله من عبيده السّودان ألوف بالرماح والدّرَق.

قال: ولم يكن فِي دولته أحدٌ يُسمّى بالأمير ولا بالوالي، وإنما يسمّون الطَّلبة لأن دولته مَبْنية على العِلْم، ومَن دون الطَّلَبة يُسمّون الحفاظ. وأما أولاد أمير المؤمنين فيسمون السادة. ولا يجتمع النّاس عنده فينصرفون إلا عن دعاءٍ منه، ويؤمَّن الحاضرون، وما لبس إلا ثياب الصّوف طول عمره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015