230 - إسماعيل بْن محمد بْن الفضل بْن عليّ بْن أحمد بن طاهر، الحافظ الكبير، أبو القاسم التَّيْميّ، الطَّلْحيّ، الأصبهاني، المعروف بالجوزي، الملقب بقوام السُّنة. [المتوفى: 535 هـ]
وُلِد سنة سبعٍ وخمسين وأربعمائة في تاسع شوّال، وسمع من: أبي عَمْرو بن مَنْدَهْ، وعائشة بنت الحَسَن الوَرْكانيَّة، وإبراهيم بن محمد الطَيّان، وأبي الخير بن رَرَا، وأبي منصور بن شكرُوَية، وابن ماجة الأَبْهَريّ، وأبي عيسى عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن زياد، وطائفة من أصحاب ابن خُرَّشِيذ قُولَه، ورحل إلى بغداد، فأدرك أبا نصر الزَّيْنبيّ، وهو أكبر شيخٍ له، فسمع منه، ومن: عاصم الأديب، ومالك البانياسيّ، والموجودين، ورحل إلى نَيْسابور فسمع: أبا نصر -[624]- محمد بن سهل السّرّاج، وعثمان بن محمد المَحْمِيّ، وأبا بكر بن خَلَف، وجماعة من أصحاب ابن مَحْمِش، وسمع بعدَّة بلاد، وجاور بمكَّة سنة، وصنَّف التّصانيف، وأملى، وتكلّم في الجرْح والتّعديل.
روى عنه: أبو سعد السّمعانيّ، وأبو القاسم ابن عساكر، وأبو موسى المَدِينيّ، ويحيى بن محمود الثّقفيّ، وعبد الله بن محمد بن حمْد الخبّاز، والقاضي أبو الفضائل محمود بن أحمد العبدكويي، وأبو نَجِيح فضل الله بن عثمان، وأبو المجد زاهر بن أحمد، والمؤيَّد ابن الأخوة، وآخرون.
قال أبو موسى في " مُعْجمه ": أبو القاسم إسماعيل ابن الشَيخ، الصّالح حقيقة أبي جعفر محمد بن الفضل الحافظ، إمام أئمة وقته، وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السنة في زمانه، قد حدَّثنا عنه غيرُ واحدٍ من مشايخنا في حال حياته بمكة، وبغداد، وأصبهان، وأصمت في صفر سنة أربعٍ وثلاثين، ثمّ فُلِج بعد مدة، وتوفي بكْرَة يوم الأضحى، وصلى عليه أخوه أبو المرجى، واجتمع في جنازته جمعٌ لم أر مثلهم كثرةً، رحمه الله.
قلت: وقد أفرد أبو موسى له ترجمةً في جزءٍ كبير مبوَّب، فافتتحه بتعظيم والده أبي جعفر محمد بن الفضل، ووصفه بالصّلاح، والزُّهد، والأمانة، والورع، ثمّ روى عن أبي زكريّا يحيى بن مَنْدَهْ أنّه قال: أبو جعفر عفيف، ديّن، لم نَرَ مثله في الدّيانة والأمانة في وقتنا، قرأ القرآن على أبي المظفَّر بن شبيب، وسمع من سعيد العيّار، ومات في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، قال أبو موسى: ووالدته من أولاد طلحة رضي الله عنه، وهي بنت محمد بن مُصْعَب. فقال أبو القاسم في بعض أماليه عقيب حديثٍ رواه عن شيخٍ له، عن أبي بكر محمد بن عليّ بن إبراهيم بن مصعب: كان أبو بكر عم والدتي، وهو من أماثل أهل أصبهان، له أوقاف كثيرة في البلد.
قال أبو موسى: قال أبو القاسم إسماعيل: سمعت من عائشة الوَرْكانيَّة وأنا ابن أربع سِنين.
وقد سمع إسماعيل أيضًا من أبي القاسم علي بْن عبد الرحمن بْن عُلَيَّك القادم أصبهان في سنة إحدى وستّين، ولا أعلم أحدًا عابَ عليه قولًا ولا فعلًا، -[625]- ولا عانده أحدٌ في شيءٍ إلّا وقد نصره الله، وكان نزه النَّفس عن المطامع، لَا يدخل على السّلاطين، ولا على المتّصلين بهم، قد خلّى دارًا من ملْكه لأهل العلم، مع خفة ذات يده، ولو أعطاه الرجل الدّنيا بأسرها لم يرتفع عنده بذلك، ويكون هو وغيره ممّن لم يُعطه شيئًا سواء، يشهد بجميع ذلك الموافقون والمخالفون، بلغ عدد أماليه نحوا من ثلاثة آلاف وخمسمائة مجلس، وقلما نعلم أحدا بأصبهان بلغ عدد أماليه هذا القدر، وكان يحضر مجلس إملائه المسندون، والأئمة، والحفاظ، وما رأيناه قد استخرج إملاءه كما يفعله المُمْلُون، بل كان يأخذ معه أجزاء، فَيُملي مِنها على البديهة، أخبرنا أبو زكريّا يحيى بن مَنْدَهْ الحافظ إذْنًا في كتاب " الطبقات " قال: إسماعيل بن محمد الحافظ أبو القاسم، حَسَن الاعتقاد، جميل الطّريقة، مقبول القول، قليل الكلام، ليس في وقته مثله.
وقال أبو مسعود عبد الجليل بن محمد كوتاه: سمعت أئمة بغداد يقولون: ما رحل إلى بغداد بعد أحمد بن حنبل رجل أفضل وأحفظ من الشَيخ الإمام إسماعيل.
قال أبو موسى: باب الدّليل على أنّه إمام المائة الخامسة الّذي أحيا الله به الدّين، قال: لَا أعلم أحدًا في ديار الإسلام يصلح لتأويل هذا الحديث إلا هذا الإمام، أبو القاسم إسماعيل رحمة الله عليه.
قلت: تكلف أبو موسى في هذا الباب تكلفًا زائدًا، إذ جعل أبا القاسم على رأس الخمسمائة، وإنما كان اشتهاره من العشرين وخمسمائة ونحوها، وإلي أنّ مات، هذا إذا سُلِّم له أنّه أجلّ أهل زمانه في العلم.
وقال أيضًا: فإن اعترض معترضٌ بقول أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث " برجلٍ من أهل بيتي "، قيل لَهُ: لم يُرَد أنّ يكون من بني هاشم أو بني المطَّلِب.
قلت: لم يقُلْ أحمد هذا أصلًا، ولا قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالاعتراض باطل، ثمّ إنّه أخذ يتكلف عن هذا، وقال: فثبت أنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد من قريش، وهذا الإمام الّذي تأولته على الحديث من قريش من أولاد طلحة بن عُبَيْد الله من جهة -[626]- الأمّ، ثمّ شرع ينتصر بأنّ ابن أخت القوم منهم، وهذا يدلّ على أنّ إمامنا قُرَشيّ.
وعن أبي القاسم إسماعيل قال: ما رأيت في عمري أحدًا يحفظ حِفْظي.
قال أبو موسى: وكان رحمه الله يحفظ مع المسانيد الآثار والحكايات، سمعته يقول يومًا: ليس في " الشّهاب " للقُضاعيّ من الأحاديث إلّا قدْر خمسين حديثًا، أو نحو ذلك.
قال أبو موسى: وقد قرأ عدَّة ختمات بقراءات على جماعة، وأمّا علم التّفسير، والمعنى، والإعراب، فقد صنف فيه كتبًا بالعربية وبالفارسية، وأمّا علم الفقه فقد شهر فتاويه في البلد والرّساتيق، بحيث لم ينكر أحدٌ شيئًا من فتاويه في المذهب، وأصول الدِّين، والسُّنَّة.
وكان يُجِيد النَّحْو، وله في النَّحْو يد بيضاء، صنف كتاب " إعراب القرآن "، ثم قال: أخبرنا أبو سعد محمد بن عبد الواحد، قال: حدثنا أبو المناقب محمد بن حمزة بن إسماعيل العلوي بهمذان، قال: حدثنا الإمام الكبير، بديع وقته، وقريع دهره، أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل، فذكر حديثًا.
سألتُ أبا القاسم إسماعيل بن محمد يومًا، وقلت له: أليس قد رُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: " استوى " قعد؟ قال: نعم، قلت له: يقول إسحاق بن راهويه: إنما يوصف بالقعود من يمل القيام، فقال: لَا أدري إيش يقول إسحاق، وسمعته يقول: أخطأ ابن خُزَيْمة في حديث الصّورة، ولا يُطعن عليه بذلك، بل لَا يؤخذ عنه هذا فحسب.
قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنّه قلّ من إمام إلّا وله زلَّة، فإذا تُرِك ذلك الإمام لأجل زلّته تُرِكَ كثير من الأئمَّة، وهذا لَا ينبغي أنّ يُفْعل.
وكان من شدة تمسُّكه بالسُّنة، وتعظيمه للحديث، وتحرُّزه من العدول عنه، ما تكلَّم فيه من حديث نُعَيم بن حماد الذي رواه بإسناده في النّزول بالذّات، وكان من اعتقاد الإمام إسماعيل أن نزول الله بالذّات، وهو مشهور من -[627]- مذهبه، قد كتبه في فتاوى عدَّة، وأملى فيه أمالي، إلا أنه كان يقول: إسناده مدخول وعلى بعض رُواته مطعن.
سمعت محمد بن مبشر يقول: سمعت الإمام أبا مسعود يقول: ربّما كنا نمضي مع الإمام أبي القاسم إلى بعض المشاهد المعروفة، فكلما استيقظنا في اللّيل رأيناه قائمًا يصلّي، وسمعت من يحكي عنه في اليوم الّذي قدِم بولده ميّتًا، وجلس للتّعزية، جدَّد الوضوء في ذلك اليوم مرات قريبًا من ثلاثين مرَّة، كلّ ذلك يصلّي ركعتين.
وسمعت غير واحدٍ من أصحابه أنّه كان يُمْلي " شرح مسلم " عند قبر ولده أبي عبد الله، فلما كان يوم ختم الكتاب عمل مأدُبةً وحلاوة كثيرة، وحُمِلت إلى المقبرة، وكان أبو عبد الله محمد قد ولد نحو سنة خمسمائة، ونشأ فصار إمامًا في العلوم كلّها، حتّى ما كان يتقدمه كبيرُ أحدٍ في وقته في الفصاحة، والبيان، والذّكاء، والفهم، وكان أبوه يفضله على نفسه في اللُّغة، وجَريان اللّسان، وقد شرح في " الصّحيحين " فأملى في شرح كلّ واحدٍ منهما صدرًا صالحًا، وله تصانيف كثيرة مع صِغَر سِنّه، ثمّ اخترمَتْه المَنِيَّة بهَمَذَان في سنة ستٍ وعشرين، وكان والده يروي عنه وجادةً، وكان شديد الفقد عليه.
سمعت أبا الفتح أحمد بن الحَسَن يقول: كنّا نمشي مع أبي القاسم يومًا، فوقف والتفت إلى الشَيخ أبي مسعود الحافظ، وقال: أطال الله عُمرك، فإنّك تعيش طويلًا، ولا ترى مثلك، وهذا من كراماته.
قال أبو موسى: صنَّف أبو القاسم التّفسير في ثلاثين مجلَّدة كبارًا، وسماه " الجامع "، وله كتاب " الإيضاح في التّفسير " أربع مجلّدات، وكتاب " الموضح في التّفسير " ثلاث مجلَّدات، وكتاب " المعتمد في التّفسير " عشر مجلَّدات، وكتاب " التّفسير " بالأصبهانيّ عدَّة مجلَّدات، وكتاب " السُّنَّة " مجلَّدة، وكتاب " التّرغيب والتّرهيب "، وكتاب " سِيَر السَّلَف " مجلّدة ضخمة، و" شرح صحيح البخاري "، و" شرح صحيح مسلم "، كان قد صنفهما ابنه فأتمّهما، وكتاب " دلائل النُّبُوَّة " مجلَّدة، وكتاب " المغازي " مجلَّدة، وكتاب صغير في السُّنَّة، وكتاب " الحكايات "، مجلدة ضخمة، وكتاب " الخلفاء " في -[628]- جزء، وتفسير كتاب " الشّهاب " باللّسان الأصبهانيّ، وكتاب " التّذكرة " نحو ثلاثين جزءًا، وقد تقدَّمت أماليه.
قال الحافظ ابن ناصر: حدَّثني أبو جعفر محمد بن الحسن بن محمد ابن أخي الحافظ إسماعيل، قال: حدَّثني أحمد الأسواريّ الذّي تولّى غسْل عمّي، وكان ثقة، أنه أراد أن ينحي عن سوأته الخِرْقة لأجل الغسْل، فجبذها إسماعيل من يده، وغطّى بها فَرْجه، فقال الغاسل: أحياة بعد موت؟
وقال ابن السّمعانيّ: هو أستاذي في الحديث، وعنه أخذت هذا القدر، وهو إمام في التّفسير، والحديث، واللّغة، والأدب، عارف بالمُتُون والأسانيد، وكنت إذا سألته عن الغوامض والمُشْكِلات أجاب في الحال بجوابٍ شافٍ، سمع الكثير ونسخ، ووهب أكثر أصوله في آخر عمره، وأملى بجامع أصبهان قريبًا من ثلاثة آلاف مجلس، وسمعته يقول: والدك ما كان يترك مجلس إملائي، وكان والدي يقول: ما رأيت بالعراق ممن يعرف الحديث ويفهمه غير اثنين: إسماعيل الجوزي بأصبهان، والمؤتمن السّاجيّ ببغداد.
قال أبو سعد: استفدت منه الكثير، وتتلمذت له، وسألته عن أحوال جماعة، وسمعتُ أبا القاسم الحافظ بدمشق يُثني عليه، وقال: رأيته وقد ضعُف وساء حِفْظُه.
وأثني عليه أبو زكريّا ابن مَنْدَهْ في " تاريخ أصبهان ".
وذكره محمد بن عبد الواحد الدقاق فقال: عديم النظير، لا مثل له في وقته، كان والده ممّن يُضرب به المثل في الصلاح والرشاد.
وقال السِّلَفيّ: كان فاضلًا في العربيَّة ومعرفة الرّجال، سمعت أبا عامر العَبْدَريّ يقول: ما رأيت شابًا ولا شيخًا قطّ مثل إسماعيل، ذاكَرْتُه فرأيته حافظًا للحديث، عارفًا بكل علم، متفننًا، استعجل علينا بالخروج، وسمعت أبا الحسين ابن الطُّيُوريّ يقول غير مرَّة: ما قدِم علينا من خُراسان مثل إسماعيل بن محمد، رحمه الله.