-سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

جمع السّلطان مسعود العساكر لقصد الموصل والشّام، وتردّدت رُسُل زنكيّ، ثمّ تمّ الصُّلْح على ثلاثمائة ألف دينار في نُوَب، فعجَّل ثلاثين ألفًا، ثمّ تقلَّبت الأحوال واحتاج إلى مُداراة زنكيّ، وسقط المال، وقبض البعض.

وفيها سار السّلطان سَنْجَر وحاصر خُوارَزْم، وكاد أنّ يفتحها عَنْوةً، فأخرج خُوارَزْمشاه أَتْسِز الرُّسل ببذل الطّاعة والمال، ويعود إلى الانقياد، ويعتذر عما تقدم، فصالحه سنجر، وانعقد الصلح.

وافتتح زنكيّ في هذا العصر فتوحاتٍ عظيمة، وهابته الملوك، واتسعت ممالكه. -[538]-

وكان البلاء شديدًا ببغداد من الحراميَّة وأذِيّتهم، ثمّ صُلِب جماعة منهم، فسكن النّاس قليلًا.

وقدم السلطان بغداد، وقدم معه الحسن بن أبي بكر النَّيْسابوريّ الحنفيّ أحد الكِبار والمناظرين، قال ابن الجوزيّ: جالسْتُه مدَّةً، وسمعت مجالسه كثيرًا، وجلس بجامع القصر، وكان يلعن الأشعريّ جَهرًا على المنبر ويقول: كُنْ شافعيًا ولا تكن أشعريًّا، وكُنْ حنفيًّا ولا تكن معتزِليًّا، وكن حنبليًّا ولا تكن مُشَبِّهًا، وما رأيت أعجب من الشّافعيَّة، يتركون الأصل ويتعلّقون بالفرع، وكان يمدح الأئمة الأعلام، وزاد في الشطرنج بغلا، وقد جلس في رجب في دار السّلطنة، وحضر السّلطان مجلس وعْظه، وكان قد كُتِب على باب النّظاميَّة اسم الأشعريّ، فتقدَّم السّلطان بمحوه وكتب مكانه اسم الشّافعيّ.

وكان أبو الفتوح الإسفراييني يجلس ويعظ في رِباطه، ويتكلم على محاسن مذهب الأشعريّ، فتقع الخصومات، فذهب أبو الحسن الغَزْنَويّ إلى السّلطان وأخبره بالفِتَن وقال: إنّ أبا الفتوح صاحب فتنة، وقد رُجم ببغداد مِرارًا، والصّواب إخراجه، فأخرج من بغداد، وعاد الحسن بن أبي بكر النَّيْسابوريّ إلى وطنه.

ويعرف الإسفراييني المذكور بابن المعتمد، واسمه محمد بن الفضل بن محمد، ولد سنة أربعٍ وسبعين وأربعمائة بإسفرايين، ودخل بغداد فاستوطنها.

وكان يبالغ في التّعصب لمذهب الأشعري، وكانت الفتن قائمة في أيامه واللعنات في الأسواق، وكان بينه وبين الواعظ أبي الحسن الغَزْنَويّ حسدٌ وشَنَآن، وكان كلّ واحدٍ منهما ينال من الآخر على المِنْبر، فلمّا بويع الرّاشد بالله، وخرج عن بغداد، خرج معه أبو الفتوح إلى الموصل، فلمّا قُتِلَ الرّاشد سُئل المقتفيّ فيه، فإذن له في العَود إلى بغداد، فجاء وتكلم، واتفق مجيء الحسن بن أبي بكر النَيْسابوريّ فوعظ، ووجد الغَزْنَويّ فرصة، فكلَّم السّلطان في أبي الفتوح، فأصغي إليه.

وقال ابن الجوزيّ: بَلَغَني أنّ السّلطان قال للحسن النَيْسابوريّ: تقلَّد -[539]- دم أبي الفتوح حتى أقتله، فقال: لَا أتقلّد، فوكّل بأبي الفتوح حتّى أُخرج من بغداد، ووقف عند السّور خمسة عشر تركيًا، فشيعه خلْق كثير، فلمّا وصلوا إلى السّور ضربتهم الأتراك، فرجعوا، وأرسل إلى هَمَذَان، ثمّ سُلِّم إلى عباس، فبعثه إلى إسفرايين، واشترط عليه أنه متى خرج من بلده أهلك، وجاء حموه أبو القاسم شيخ الرباط، وأبو منصور ابن الرزاز، ويوسف الدمشقي، وأبو النجيب السهروردي إلى السّلطان يسألون فيه، فلم يلتفت إليهم، ونودي في بغداد أنّ لَا يذكر أحد مذهبًا، ولا يثير فتنة، فلمّا وصل أبو الفتوح إلى بسْطام تُوُفّي بها في ذي الحجَّة ودُفِن هناك.

قلت: ولمّا بَلَغَت ابن عساكر الحافظ وفاتُه أملى مجلسًا سمعناه بالاتّصال، وعُمِل له العزاء في رباطه ببغداد، فحضره الغَزْنَويّ، فلامه بعض النّاس وقال: ما لك أظهرت الحزْن عليه وبكيت؟ قال: أنا بكيت على نفسي، كان يقال فلان وفلان، فعُدِم النظير، ودنا الرحيل.

وفيها نازل عبد المؤمن تِلِمْسان، وحاصرها مدَّةً طويلة، فكشف عنها تاشفين بن عليّ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015