363 - محمد بن الفضل بن أَحْمَد بن محمد بن أبي العباس، أبو عبد الله الصَّاعديُّ الفُرَاويُّ النَّيسابوريُّ الفقيه. [المتوفى: 530 هـ]
أبوه من ثَغْر فُرَاوة، سكن نيسابور، فولد محمد بها في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة تقديراً، لأنَّ شيخ الإسلام أبا عثمان الصَّابوني أجاز له في هذه السَّنة. وسمع "صحيح مسلم" من عبد الغافر الفارسي، وسمع "جزء ابن نُجَيْد" من عُمر بن مسرور، وسمع من أبي عثمان الصَّابوني المذكور، وأبي سعد الكَنْجَرُوذي، وأبي بكر البيهقي، وسعيد العيَّار، وأبي القاسم القشيري، وأبي سهل الحفصي، ومحمد بن عليّ الخبَّازي، وأبي عثمان سعيد بن محمد البحيري، وأبي يعلى إسحاق أخي الصَّابوني، والأستاذ أبي إسحاق الشِّيرازي لمَّا قدم رسولاً إلى نيسابور، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وغيرهم. وببغداد من أَبِي نصر الزَّينبي، وعاصم بْن الحَسَن. وسمع "صحيح البخاري" من العيَّار والحَفْصي، وتفرَّد "بمسلم"، وتفرَّد "بدلائل النبوة" و"بالأسماء -[513]- والصَّفات"، و "الدَّعوات الكبير"، و "البعث" للبيهقي؛ قاله السَّمعاني، وقال: هو إمام مفتٍ، مناظر، واعظ، حسن الأخلاق والمعاشرة، كثير التَّبسُّم، جواد مُكْرِم للغرباء، ما رأيت في شيوخي مثله.
قلت: روى عَنْهُ أبو سعد السَّمعاني، وأبو العلاء الهمذاني، وأبو القاسم بن عساكر، وأبو الحسن المُرادي، ومحمد بن عليّ بن ياسر الجيَّاني، ومحمد بن عليّ بن صدقة الحرَّاني، وأحمد بن إسماعيل القزويني، وأبو سعد عبد الله بن عمر الصَّفَّار، وعبد السَّلام بن عبد الرحمن الأكَّافي، وعبد الرحيم بن عبد الرحمن الشَّعري، ومنصور بن عبد المنعم الفراوي، وأبو الفتوح محمد بن المطَهَّر بن يعلى الفاطمي الهروي، وأبو المفاخر سعيد ابن المأموني، وآخر مَنْ حدَّث عنه المؤيد الطُّوسي.
وذكره عبد الغافر في " سياق تاريخ نيسابور "، فقال فيه: فقيه الحرم البارع في الفقه والأصول الحافظ للقواعد، نشأ بين الصُّوفية، ووصل إليه بركات أنفاسهم، درس على زَيْن الإسلام القشيري الأصول والتَّفسير، ثم اختلف إلى مجلس إمام الحرمين، ولازم درسه ما عاش، وتفقه عليه، وعلَّق عنه الأصول، وصار من جملة المذكورين من أصحابه، وحجَّ وعقد المجلس ببغداد، وسائر البلاد، وأظهر العلم بالحرمين، وكان منه بهما أثر وذِكْر ونشر للعلم، وعاد إلى نيسابور. وما تعدَّى قطُّ حدَّ العلماء ولا سيرة الصَّالحين من التَّواضع والتَّبذًُّل في الملابس والمعايش، وتستَّر بكتابة الشُّروط لاتصاله بالزُّمرة الشَّحَّامية مصاهرة، ودرَّس بالمدرسة النَّاصحية، وأمَّ بمسجد المُطرِّز، وعقد مجالس الإملاء يوم الأحد، وله مجالس الوعظ المشحونة بالفوائد والمبالغة في النُّصح، وحدَّث " بالصحيحين "، و " غريب الخطَّابي "، وغير ذلك، والله يزيد في مُدَّته ويفسح في مهلته إمتاعاً للمسلمين بفائدته.
وقال أبو سعد السَّمْعاني: سمعت عبد الرشيد بن عليّ الطَّبري بمرو يقول: الفُراوي ألف راوي.
قال أبو سعد: وسمعت أبا عبد الله الفُراوي يقول: كُنَّا نسمع " مسند أبي عوانة " على أبي القاسم القشيري، وكان يحضر رجل من المُحْتَشِمين يجلس بجنب الشَّيخ وكان القارئ أبي، فاتفق أنه بعد قراءة جملة من الكتاب انقطع -[514]- ذلك المحتشم يوماً، وخرج الشَّيخ على العادة، وكان في أكثر الأوقات يخرج ويقعد وعليه قميص أسود خشن وعمامة صغيرة، وكنت أظنُّ أنَّ والدي يقرأ الكتاب على ذلك الرَّئيس، فشرع أبي في القراءة، فقلت: يا سيدي على مَنْ تقرأ والشيخ ما حضر؟ فقال: وكأنك تظنُّ أنَّ شيخك ذلك الشخص؟ قلت: نعم، فضاق صدره واسترجع، وقال: يا بني شيخك هذا القاعد، وعلَّم ذلك المكان، ثم أعاد لي من أول الكتاب إليه.
سمعت: عبد الرزاق بن أبي نصر الطَّبسي يقول: قرأت " صحيح مسلم " على الفُرَاوي سبع عشرة نوبة، ففي آخر الأيام قال لي: إذا أنا متُّ أوصيك أن تحضر غَسْلي، وأن تُصَلِّي أنت عليَّ بمن في الدَّار، وأن تُدْخِل لسانك في فيَّ، فإنك قرأت به كثيراً حَدِيثَ رَسُولِ اللَّه صلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو سعد: وصُلِّي عليه بكرة، وما وُصِلَ به إلى المقبرة إلى بعد الظُّهر من الزِّحام، وأذكر أنَّا كُنَّا في رمضان سنة ثلاثين، وحملنا محفَّته على رقابنا إلى قبر مسلم لإتمام " الصحيح "، فلما فرغ القارئ من الكتاب بكى الشَّيْخ ودعا وأبكى الحاضرين، وقال: لعلَّ هذا الكتاب لا يُقرأ عليَّ بعد هذا. فتُوفي رحمه الله في الحادي والعشرين من شوَّال، ودُفِنَ عند قبر إمام الأئمة ابن خُزَيمة، وقد أملى أكثر من ألف مجلس.