400 - آقسُنْقُر، سيف الدين قسيم الدولة أبو سعيد البُرْسُقيُّ، [المتوفى: 520 هـ]
مولى الأمير بُرْسُق غلام السُّلطان طغرلبك. -[314]-
ترقت به الحال إلى أن ولاه السُّلطان محمود بن محمد إمرة المَوْصل والرَّحْبة، ثم ولاَّه شحنكية بغداد إلى أن عُزِلَ عنها في سنة ثمان عشرة، وسار إلى الموصل، فكاتبه الحلبيون إلى حلب لما حصرهم الفرنج، فسار إليهم وترحَّل الفرنج عنها فملكها في ذي الحجة من السنة. وكان بلك بن بهرام بن أرتق قد قتل بمنبج فتملك ابن عمِّه تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق. وكان بغدوين ملك الفرنج أسيراً في يد بلك فاشترى نفسه من تمرتاش وهادنَهُ واتفق موت والده شمس الدولة إيلغازي صاحب ماردين، فتوجه ابنه إليها، واشتغل بملكها، فغدر بغدوين واتفق مع دُبيس بن صدقة وإبراهيم بن رضوان بن تتش فنازلوا حلب وطال الحصار حتى أكلوا الجيف ووقع فيهم الوباء بحلب وهم مع ذلك ثابتو الجأش في القتال، فأغاثهم الله بقسيم الدولة؛ وذلك أن أهل حلب اتفقوا وأخرجوا في اللَّيل قاضيهم أبا غانم والشريف زُهْرة وابن الحلِّي إلى تمرتاش صاحب حلب وهو بماردين، فلما أصبح الصَّباح صاح الفرنج: أين قاضيكم أين شريفكم، فما شكَّ النَّاس أنهم قد أُسروا. فوصل منهم كتاب بأنهم فاتوا الفرنج فقدموا على حسام الدين تمرتاش، فأخذ يماطلهم ويسوفهم إلى أن قال مرة: خلُّوهم إذا أخذوا حلب عُدتُ وأخذتُها، فقلنا: لا تفعل ولا تسلم المسلمين إلى عدوهم. فقال: كيف أقدر على لقائهم؟ فقال القاضي أبو غانم: وأيش هم حتى لا تقدر عليهم. ثم لما خاف أن ننفصل عنه إلى غيره رسم علينا من يحفظنا، فأعملنا الحيلة في الهرب إلى الموصل إلى آقسنقر، فتحدثنا مع من يُهَرِّبُنَا وكان للمنزل الذي نحن فيه باب يصرُّ عظيماً إذا فُتِحَ فطرحنا فيه زيتاً وواعدنا الغِلْمان أن يأتونا بالدَّواب، وكان الثَّلج كثيراً. قال أبو غانم: فنام الموكلون بنا، وجاء الغلمان إلا غلامي ياقوت، فأخبروا أن قيد الدابة تعسر عليه، فضاقت صدورنا، فقلت لأصحابي: امضوا أنتم ولا تنتظروني. ثم جاءني ياقوت بالدَّابة سحَرًا، فركبت ولا أعرف الطريق، ثم قصدت الجهة، فلما طلع الضَّوء إذا أنا وأصحابي في مكان واحد، وكانوا قد ضلُّوا عن الطَّريق، فصلينا الصُّبح وسُقنا، فجئنا فإذا البُرْسقي مريض، وقد تماثل ولكنه ضعيف، فطلبنا منه أن يغيث المسلمين وذكرنا له ما حلَّ بهم من الحصار والضِّيق والقلّة، فقال: كيف لي بالوصول إليهم وأنا هكذا؟ فقلنا: يجعل المولى في نيَّته وعزمه إن خلَّصه الله أن ينصرهم. فقال: إي، والله، ثم -[315]- رفع رأسه إلى السَّماء وقال: اللهم إني أشهدك إن عوفيت لأنصرنَّهم. قال: ففارقته الحُمَّى بعد ثلاث، فنادى في عسكره: الغزاة، وبرَّز خيمته، ثم توجَّه بعساكره، فلما أشرف على حلب رحل الفرنج عنها، وتأخروا إلى جبل جوشن، فقاربها وخرج أهلها إلى لقائه فقصد نحو الفرنج بعسكره وبأهل البلد، فانهزم الفرنج، فسار وراءهم حتى أبعدوا، ورجع ودخل البلد، ورتَّبه وجلب إليه الغلال، وكان ذلك في آذار، فجعل الناس يبلُّون الحنطة والشَّعير بالماء ويزرعونها، وجاء مغل صالح. وترك ولده عز الدين مسعوداً بها، وعاد إلى الموصل، فقتلته الإسماعيلية بالجامع يوم الجُمُعة، ثار عليه عشرة فقتل بيده منهم ثلاثة وقُتِل، ولم يفلت منهم سوى رجل، وذلك في تاسع ذي القعدة من سنة عشرين. وقيل: إنهم كانوا بزي الصُّوفية، وكان قد تصدى لإبادة الإسماعيلية والباطنية، وقَتَلَ منهم جماعة كثيرة.
قال القاضي بهاء الدين بن شدَّاد: كان البرسقي دينا، عادلاً، حسن الأخلاق، يؤثر عنه أنه قال لقاضيه: أريد أن تساوي بين الرَّفيع والوضيع في مجلس الحُكم، فقال: كيف لي بذلك؟ فقال: الطريق في هذا أن ترتاد لي خصماً وتدعوني إلى مجلس الحكم، فإذا حضرت إليك تلتزم معي ما تلتزمه مع خصمي. ثم قال لزوجته الخاتون: وكِّلي وكيلاً يطالبني بصداقك، فوكلت رجلاً، فمضى إلى مجلس الحكم، وقال: لي خصومة مع قسيم الدولة وأطلب حضوره إلى مجلسك. فسيَّر بطلبه، فحضر إلى الحكم، فلم يقم له القاضي، وساوى بينه وبين الوكيل، فادَّعى عليه، فاعترف، فأمره القاضي بدفع المال، فقام ودفع إليه من خزانته. ثم إنه أمر القاضي أن يتخذ مسماراً على باب داره نقشه "أجب داعي الله" وأن يختم عليه بشمعه، فمن كان له خصم حضر وختم بشمعه على ذلك المسمار ومضى إلى خصمه بها كائناً مَنْ كان، فلا يجسر أن يتخلَّف، فرحمه الله تعالى. وولي بعده ابنه عز الدين مسعود فلم يسن.