101 - علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله، الإمام أبو الوفاء البغدادي، الظفري،

101 - عليّ بْن عقيل بْن محمد بْن عقيل بْن عَبْد الله، الإمام أبو الوفاء البغداديّ، الظفري، [المتوفى: 513 هـ]

شيخ الحنابلة، ومصنف التّصانيف.

كَانَ يسكن الظَّفَريّة، ومسجده بها معروف، وُلِد سنه إحدى وثلاثين -[204]- وأربع مائة، وسمع: أبا بَكْر محمد بْن عَبْد المُلْك بْن بِشران، وأبا الفتح بْن شيطا المقرئ، وأبا محمد الجوهريّ، والقاضي أبا يَعْلَى، والحسن بْن غالب المقرئ، وجماعة.

روى عَنْهُ: أبو حفص المغازليّ، وأبو المُعَمَّر الأنصاريّ، ومحمد بْن أَبِي بَكْر السّنْجيّ، والسّلفيّ، وخطيب المَوْصِل، وآخرون.

وتفقَّه عَلَى القاضي أَبِي يَعْلَى، وعلى الموجودين بعده، وقرأ عِلم الكلام عَلَى أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم ابن التبان البغداديين صاحبَيِ القاضي أَبِي الحُسَيْن البصْريّ.

أُنبئتُ عَنْ حمّاد الحَرّانيّ قَالَ: سَمِعْتُ السّلَفيّ يَقُولُ: ما رأت عيني مثل الشَّيْخ أَبِي الوفاء بْن عقيل الفقيه، ما كَانَ أحد يقدر أن يتكلّم معه لغزارة عِلْمه، وحُسْن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوّة حُجّته، ولقد تكلَّم يومًا مَعَ شيخنا أَبِي الحَسَن إلْكيا في مسألةٍ، فقال لَهُ شيخنا: هذا لَيْسَ بمذهبك. فقال لَهُ أبو الوفاء: أكون مثل أَبِي عليّ الْجُبّائيّ، وفلان، وفلان لَا أعلم شيئًا؟ أَنَا لي اجتهاد، متى ما طالبني خصْمٌ بحُجةٍ، كَانَ عندي ما أدفع بِهِ عَنْ نفسي وأقوم لَهُ بحجَّتي. فقال شيخنا: كذلك الظنّ بك.

قلت: وكان إمامًا مبرزًا، مناظرًا، كثير العلوم، له يد طولى في علم الكلام. وكان يتوقّد ذكاءً، لَهُ كتاب "الفنون" لم يصنَّف في الدُّنيا أكبر منه، حدَّثني مِن رَأَى منه المجلَّد الفُلانيّ بعد الأربع مائة يحكي فيه بحوثًا شريفة ومناظرات وتواريخ ونوادر، وما قد وقع له.

وقال: عَصَمني الله في شبابي بأنواع مِن العصمة، وقَصَر محبّتي عَلَى العِلْم، وما خالَطْتُ لعّابًا قطّ، ولا عاشرت إلّا أمثالي مِن طَلَبة العِلْم، وأنا في عَشْر الثّمانين، أجد مِن الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين، وبلغت لاثنتي عشرة سنة، وأنا اليوم لَا أرى نقصًا في الخاطر والفِكْر والحِفْظ، وحدَّة النَّظر بالعين لرؤية الأَهِلَّة الخَفيّة، إلّا أنّ القوّة ضعيفة.

قَالَ ابن الجوزيّ: وكان دَينًا، حافظًا للحدود، تُوُفّي لَهُ وَلَدان، فظهر -[205]- منه مِن الصَّبر ما يتُعَجَّب منه، وكان كريمًا ينفق ما يجد، وما خلَّف سوى كُتُبه وثياب بدنه، وكانت بمقدار. وتُوُفّي بُكْرة الجمعة ثاني عشر جُمَادَى الأولى، وكان الْجَمْع يفوت الإحصاء. قَالَ شيخنا ابن ناصر: حزرتهم بثلاث مائة ألف.

أخبرنا إسحاق الأسدي، قال: أخبرنا أبو البقاء يعيش، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد الخطيب، قال: أخبرنا أبو الوفاء علي بن عقيل الفقيه، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي، قال: حدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا هوذة، قال: حدثنا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِن صَنْعَةِ يَدَيِ التَّصَاوِيرِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا، وليس بنافخ فيها أبدًا ". فربا لَهُ الرَّجُلُ وَاصْفَرَّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ بُدٌّ فَعَلَيْكَ بِالشَّجَرِ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ.

رَأَيْت شيخنا وغيره مِن علماء السُّنَّة والأثر يحطّون عَلَى ابن عقيل لمّا تورَّط فيه مِن تأويلات الجهْميّة، وتحريف النّصوص، نسأل الله السّتْر والسّلامة، وقد تُوُفّي في سادس عشر جُمَادى الآخرة، وقيل في جُمَادَى الأولى، فالله أعلم.

وقال أبو الفرج ابن الْجَوْزيّ فيه: فريد دهره، وإمام عصره، وكان حسن الصورة، ظاهر المحاسن. قرأ بالروايات عَلَى أبي الفتح بْن شيطا، وأخذ النَّحْو عَنْ أَبِي القاسم بْن برهان.

وقال: قرأت عَلَى القاضي أبي يَعْلَى مِن سنة سبْعٍ وأربعين إلى أن تُوُفّي، وحظيت مِن قُربه بما لم يحظ بِهِ أحدٌ مِن أصحابه مَعَ حداثة سنّي. وكان -[206]- أبو الحَسَن الشّيرازيّ إمام الدُّنيا وزاهدها، وفارس المناظرة وواحدها، يعلمني المناظرة، وانتفعت بمصنَّفاته، ثمّ ذكر جماعة مِن شيوخه.

قَالَ: وكان أصحابنا الحنابلة يريدون منّي هجران جماعة مِن العلماء، وكان ذَلِكَ يحرمني عِلمًا نافعًا، وأقبل عليَّ أبو منصور بْن يوسف، وقدَّمني عَلَى الفتاوى، وأجلسني في حلقة البرامكة بجامع المنصور لمّا مات شيخي سنة ثمانٍ وخمسين، وقام بكل مؤونتي وتجملي، وأما أهل بيتي فإن بيت أبي كلّهم أرباب أقلام وكتابة وأدب، وعانيت مِن الفقر والنَّسْخ بالأجرة شدّةً، مَعَ عفّة وتُقَى، ولا أزاحم فقيهًا في حلقة، ولا تطلب نفسي رُتبةً مِن رُتَب أهل العِلْم القاطعة عن الفائدة، وأوذيت مِن أصحابي حتّى طُلب الدّم، وأوذيت في دولة النّظام بالطّلب والحبْس.

وقال ابن الأثير في تاريخه: كَانَ قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته عَلَى أَبِي عليّ بْن الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدّة سنين، ثمّ أظهر التّوبة.

قَالَ ابن الجوزيّ: وتكلّم عَلَى المنبر بلسان الوعظ مدّة، فلمّا كانت سنة خمسٍ وسبعين، وجَرَت الفتنة ترك الوعظ.

وذكر سبط الجوزيّ في ترجمة ابن عقيل حكايات، ثمّ قَالَ: ومنها ما حكاه ابن عقيل عَنْ نفسه، قَالَ: حججت، فالتقطت عقد لؤلؤ منظوم في خيطٍ أحمر، فإذا بشيخ أعمى ينشده، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه، فقال: خُذ الدّنانير، فامتنعت. قَالَ: وخرجت إلى الشّام، وزرت القدس، ونزلت إلى دمشق، وقصدت بغداد، وكانت أمّي باقية، فاجتزت بحلب، وأوَيت إلى مسجدٍ وأنا جائع بردان، فقدّموني فصلّيت بهم، فعشّوني، وكانت ليلة رمضان، وقالوا: إمامنا تُوُفّي مِن أيّام، ونسألك أن تصلّي بنا هذا الشّهر، ففعلت، فقالوا: لإمامنا الميت بِنْت، فتزوَّجت بها، فأقمت معها سنة، ووُلِد لي منها وُلِد، ثمّ مرضَتْ في نفاسها، فتأمّلتها ذات يوم، وإذا بخيط أحمر في -[207]- عنقها، فإذا بِهِ العقْد الَّذِي لقيته بعينه، فقلت لها: يا هذه، إنّ لهذا العقد قصّة. وحكيت لها، فبكت وقالت: أنتَ هُوَ والله، لقد كَانَ أَبِي يبكي ويقول: اللّهم ارزُق بنتي مثل الَّذِي ردّ عليَّ العقد، وقد استجاب الله منه. ثمّ ماتت، فأخذت العقد والميراث، وعدت إلى بغداد.

قال: ومنها ما حكاه أيضًا عَنْ نفسه، قَالَ: كَانَ عندنا بالظَّفَريّة دار كلمّا سكنها ناس أصبحوا موتى، فجاء مرّةً رجلٌ مقرئ، فقال: أُكْروني إيّاها، فقالوا: قد عرفتَ حالها، قَالَ: قد رضيت، فبات بها وأصبح سالمًا، فعجب الجيران، وأقام مدة، ثم انتقل بعد مدة، فسُئل عَنْ ذَلِكَ؟ فقال: لمّا دخلتها صلّيت العشاء، وقرأت شيئًا، وإذا بشابٍ قد صعد مِن البئر، فسلَّم عليَّ، فبُهتُّ، فقال: لَا بأس عليك، علَّمني شيئًا مِن القرآن، فشرعت أُعلّمه، فلمّا فرغت، قلت: هذه الدّار كيف حديثها؟ قَالَ: نحن قوم مِن الجنّ مسلمون نقرأ ونصلّي، وهذه الدّار ما يكتريها إلّا الفساق، فيجتمعون على الخمر، فنخنقهم، قلت: ففي اللَّيلْ أخاف منك فاجعل مجيئك في النّهار، قَالَ: نعم، فكان يصعد مِن البئر في النهار، وألقنه، فبينما هُوَ قاعد عندي يقرأ إذا بمعزّم في الدّرْب يَقُولُ: المُرْقي مِن الدّبيب ومن العين ومن الْجِنّ، فقال: إيش هذا؟ قلت: هذا معزّم يعرف أسماء الله، يفعل ما تسمع، فقال: اطلبه، فقمت وأدخلته، فإذا بالجنّيّ قد صار ثعبانًا في السّقْف، فضرب المعزّم المنْدَل وعَزَّم، فما زال الثّعبان يتدلّى حتّى سقط في وسط المندل، فقام ليأخذه ويدعه في الزّنبيل، فمنعته، فقال: أتمنعني مِن صَيْدي؟ فأعطيته دينارًا وأخرجته، فانتفض الثّعبان، وخرج الجّنيّ وقد ضعّف واصْفَرّ وذاب، فقلت: ما لك؟ قَالَ: قتلني هذا الرجل بهذه الأسامي، وما أظنّني أُفْلح، فأجعل بالك اللّيلة، مَتَى سَمِعْتُ مِن البئر صُراخًا فانهزم، قَالَ: فسمعت تِلْكَ اللّيلة النَّعيّ، فانهزمت. قَالَ ابْن عقيل: وامتنع أحد أن يسكن تِلْكَ الدّار.

ولابن عقيل في الفنون، قال: الأصلح لاعتقاد العوامّ ظواهر الآي؛ لأنهم ما يثبتون بالإثبات، فمتى مَحَوْنا ذَلِكَ مِن قلوبهم زالت الحشْمة، فتهافُتُهم في التّشبيه أحبّ إليَّ مِن إغراقهم في التّنزيه؛ لأنّ التّشبيه يغمسهم في -[208]- الإثبات، فيخافون ويرجون، والتنزيه يرمي بهم إلى النفي، ولا طمع ولا مخافة في النفي. ومن تدبّر الشّريعة رآها غامسة للمكلّفين في التّشبيه بالألفاظ الّتي لَا يعطي ظاهرها سواه، كقول الأعرابيّ: أو يضحك ربّنا؟ قَالَ: نعم. فلم يكْفَهر لقوله، بل تركه وما وقع لَهُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015