لمّا علم السّلطان محمود بقتال الخليفة لطُغْرُلْبَك فرح، وكاتب الخليفة، وقال: قد علمت ما فعلت لأجلي، وأنا خادمك، وتراسلا بالأيْمان والعهود على أنهما ينقضان على سنجر، ويمضيان إلى قتاله، ويكون محمود في السلطنة التي لسنجر.
فعلم سَنْجَر، وبعث إلى محمود يَقُولُ: أنت صبيّ، والخليفة قد عزم عَلَى أن يمكر بك وبي، فإذا اتّفقتما عليَّ ففرغ مني عاد إليك، فلا تَصْغِ إليه، وأنا فما لي ولدٌ ذَكَر، وأنت لمّا ضربْتَ معي مصافًا وظفرت بك لم أسئ إليك وقتلتُ مِن كَانَ سببًا لقتالنا، وأَعَدْتك إلى السَّلطنة، وجعلتك وُلّي عهدي، وزوَّجتُك ابنتي، فلمّا تُوُفّيَتْ زوَّجتُك الأخرى.
فسِر إلى بغداد بالعساكر، وأمسك الوزير ابن صدقة، واقتل رؤوس الأكراد وخُذ آلة السَّفَر الّتي عملها، وتقول للخليفة: ما تحتاج إلى هذا، أَنَا سيفك وخادمك. فإنْ فعل وإلّا أخذته بالشّدّة، وإلّا لم يبق لي ولا لك معه أمر. وبعث إليه رجلًا، وقال: هذا يكون وزيرك، فثنى عزمه.
فكتب صاحب الخبر إلى الخليفة بذلك، فنفَّذ الخليفة إِليْهِ سديد الدّولة ابن الأنباريّ يَقُولُ له: ينبغي أن تتأخر في هذه السّنة لقلّة المِيرة، فقال: لَا بدّ لي مِن المجيء. وتوجّه.
فلمّا سَمِعَ الخليفة نفّذ رسولًا وكتابًا إلى وزير السّلطان، يأمره بردّ السّلطان عَنِ المجيء، فأبي، وأجاب بجوابٍ ثَقُل سماعُه عَلَى الخليفة، وشرع في عمل آلة القتال، وجمع الجيش. ونوديَ ببغداد في ذي القِعْدة بعبور النّاس إلى الجانب الغربي، وازدحم الخلق.
ثم بعد أيام بدا للخليفة، وقال: أَنَا أُخَلّي البلد لَهُ، وأحقن دماء المسلمين. ونوديَ بالعبور إلى الجانب الشرقيّ، واشتدّت الأمطار حتّى كادت الدُّور أن تغرق. وانتقل الخليفة إلى مخيَّمة بالجانب الغربيّ تحت الرَّقَّة.
فعرف السّلطان، وقُرب من بغداد، فبعث برنقش الزَّكَويّ، وأسعد الطُّغْرائيّ، فذهبا إلى الخليفة، وأدّيا رسالة السّلطان وتألُّمه مِن انزعاج الخليفة. ثمّ حشيا في آخر الرّسالة، فقال المسترشد: أَنَا أقول لَهُ: يجب أن تتأخر في هذه السّنة، ولا يقبل؟ ما بيني وبينه -[168]- إلا السيف! وقال لبرنقش: أنت كنت السبّب في مجيئه وأنت أفسَدته، وهمَّ بقتله. فمنعه الوزير، وقال: هُوَ رسول. فرجعا بكتاب الخليفة وبالرسالة، فاستشاط غضبًا، وأمر بالرحيل إلى بغداد.
وفي يوم الأضحي نُصِبت خيمة عظيمة، وصلّى المسترشد الخليفة بالنّاس، وكان المكبّرون خُطباء الجوامع ابن الغريق، وابن المهتدي، وابن البرمكي. وصعد المنبر، ووقف وُلّي عهده الراشد بالله دونه، بيده سيفٌ مشهور، فقال: الله أكبر، ما سحّت الأنواء، وأشرق الضّياء، وطلعت ذُكاء، وعَلَت عَلَى الأرض السّماء! الله أكبر، ما هَمَع سحاب، ولمع سراب، وأنجح طلاب، وسُرّ قادما إياب!
وذكر خطبة بليغة، ثمّ جلس. ثمّ قام فخطب، وقال: اللهمّ أَصْلِحْني في ذُرّيتي، وأعِنّي على ما وليتني، وأوزعني شكر نعمتك، ووفقتي وانصُرني! فلمّا أنهاها وتهيّأ للنزول بَدَره أبو المظفَّر محمد بْن أحمد بْن عَبْد العزيز الهاشميّ فأنشده:
عليك سلامُ الله يا خير مِن عَلا ... عَلَى مَنْبرٍ قد حفَّ أعلامه النَّصْرُ
وأفضل مِن أمَّ الأنامَ وعَمَّهم ... بسيرته الحُسْنى وكان لَهُ الأمرُ
وأفضل أهل الأرض شرقًا ومَغْربًا ... ومَن جدّه مِن أجله نزل القَطْرُ
لقد شَرَّفَتْ أسماعَنَا منك خُطْبةٌ ... وموعظةُ فصل يَلين لها الصَّخْرُ
ملأتَ بها كلّ القُلُوب مَهَابة ... فقد رجَفَتْ مِن خوفٍ تخويفها مصرُ
وزدت بها عدنان مجدًا مؤثل ... فأضحى لها من الأنام بك الفخْرُ
وسُدْتَ بني العبّاس حتّى لقد غدا ... تُباهي بك السّجاد والعلم البحرُ
فلله عصر أنت فيه إمامُهُ ... ولله دينٌ أَنْتَ فيه لنا الصَّدْرُ
بقيتَ عَلَى الأيّام والمُلْك كلَّمًا ... تَقَادَم عصرٌ أنت فيه أتى عصر
وأصبحت بالعيد السعيد مهنأ ... تشرّفنا فيه صلاتُك والنَّحْر
ونزل، فنَحَر البَدَنَة بيده، وكان يومًا لم يُرَ مثلُه مِن دهر، ثمّ دخل السُّرادق، ووقع البكاء عَلَى النّاس، ودعوا لَهُ بالنّصر، وجُمعت السّفُن جميعها إلى الجانب الغربي، فانقطع عبور الناس بالكلية.
وبلغ السلطان حلوان، فأرسل من هنالك الأمير زنكي إلى واسط، فأزاح عنها عفيفا الخادم، فلحِق بالخليفة، ولم يبق بالجانب الشرقيّ سوى الحاجب -[169]- لحِفْظ دار الخلافة. وسُدّت أبوابها كلّها سوى باب النّوبي، ونزل السّلطان بالشّمّاسيّة في ثامن عشر ذي الحجّة. ونزل عسكره في دُور النّاس، وتردّدت الرّسُل إلى الخليفة تتلطّف بِهِ، وتطلب الصُّلْح وهو يمتنع ثمّ وقف عسكر للسلطان بالجانب الشّرْقيّ، والعامّة بالجانب الغربي يسبُّون الأتراك، ويقولون: يا باطنيّة، يا مَلاحدة! عصيتم أمير المؤمنين، فعُقُودكم باطلة وأنكحتكم فاسدة! وتراموا بالنّشّاب.
وفيها عاث ملك الفرنج ابن رذمير، لعنة الله، بالأندلس، وشقّ بلاد المسلمين جميعها، وسبى ونهب، حتى انتهى إلى قريب قرطبة، فحشد المسلمون وقصدوه، فبيتهم وقتل منهم مقتلة. ثمّ عاد نحو بلاده، وهو الَّذِي كسر المسلمين أيضًا سنة أربع عشرة وخمسمائة، ثمّ حاصر سنة ثمانٍ وعشرين مدينة أفراغة، وأهلكه الله.
وفيها هاجت الإسماعيلية بخُراسان، ونُصِر عليهم عسكر سَنْجَر، وقتلوا منهم مقتلة كبيرة.
وفيها قتل البرسقي.
وفيها كثُرت الإسماعيلية بالشام، وكان النّاس والكبار يخافونهم، فرأى الوزير أبو طاهر بن سعد المَزْدقانيّ مِن المصلحة أن يسلّم إلى رئيسهم بهرام حصنًا، فأعطاه طُغتِكين بانياس وتألَّم النّاس لذلك.
وفي سنة عشرين وقعة مرج الصفر، ساقها ابن الأثير، فقال: التقوا في أواخر ذي الحّجة، واشتد القتال، فسقط طُغتكين، فظن الْجُنْد أنه قُتِلَ فانهزموا إلى دمشق، وركب فرَسَه ولحِقَهم. فساقت الفرنج وراءهم، وبقي رجالة التركمان قد عجزوا عن الهزيمة، فحملوا على رجَّالة الفرنج، فقتلوا عامّتهم، ونهبوا عسكر الفرنج وخيامهم، ثم عادوا سالمين غانمين إلى دمشق.
ولما ردّت خيالة الفرنج من وراء طُغتِكين رأوا رجالتهم صَرْعى، وأموالهم قد راحت، فتمّوا منهزمين. قال: وهذا من الغريب أنّ طائفتين ينهزمان.
وفيها استفحل أمر بهرام داعي الباطنيّة بحلب والشّام، وعظُم الخَطْب وهو عَلَى غاية الاختفاء، يغيّر الزيّ، ويطوف البلاد والقلاع، ولا يُعرف. إلى -[170]- أن حصل بدمشق بتقريرٍ قرره إيلغازي بْن أرتق مع طغتكين، فأكرم اتقاء شره، وتأكدت العناية بِهِ، فتبِعَه جَهَلةٌ وسُفهاء مِن العامّة وأهل البَرّ وتَحَزَّبُوا معه. ووافقه الوزير طاهر بْن سَعْد المَزْدَقانيّ، وإن لم يكن عَلَى عقيدته، وأعانه عَلَى بثّ شَرّه، وخَفَّى سرّه ليكون عونًا لَهُ.
ثمّ التمس مِن طُغتِكين حصنًا يحتمي بِهِ، فأعطاه بانياس سنة عشرين هذه، فصار إليها وتجمع إليه أوباش استغواهم مُحَالةً وخداعة، فعظُمت البَليّة بهم، وتألَّم العلماء وأهل الدّين. وأحجموا عَنِ الكلام فيهم والتعرض لهم، خوفًا مِن شرّهم؛ لأنّهم قتلوا جماعة من الأعيان، وصاروا بحيث لَا يُنكر عليهم ملك ولا وزير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسيأتي باقي أمرهم سنة ثلاث.