قال ابن الأثير: ابتداء دولة الفرنج، لعنهم اللَّه، في سنة ثمان وسبعين، فملكوا طُلَيْطُلَة وغيرها من الأندلس، ثمّ قصدوا صِقِلّية في سنة أربع وثمانين فملكوها، وأخذوا بعض أطراف إفريقية، وخرجوا في سنة تسعين إلى بلاد الشّام، فجمع ملكهم بردويل جَمْعًا كثيرًا، وبعث إلى الملك رُجَار صاحب صِقِلّية يَقُولُ: أَنَا واصل إليك وسائرٌ من عندك إلى إفريقية أفتحها، وأكون مجاورًا لك، فاستشار رُجَار أكابر دولته، فقالوا: هذا جيّد لنا وله، وتصبح البلاد بلاد النّصرانيّة، فضرط ضرطةً، وقال: وحقّ ديني، هذه خير من كلامكم! قالوا: ولم؟
قال: إذا وصل احتاج إلى كلْفة كبيرة ومراكب وعساكر من عندي، فإن فتحوا إفريقية كانت لهم ويأخذون أكثر مُغَلّ بلادي، وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي وتأذيت بهم، ويقول تميم - يعني ابن باديس -: غدرت ونقضت العهد، ونحنُ إنْ وجدنا قوة أخذنا إفريقية، ثم أحضر الرسول، وقال: إذا عزمتم عَلَى حرب المسلمين فالأفضل فتح بيت المقدس، تخلّصونه من أيديهم، ويكون لكم الفخر، وأمّا إفريقيّة فبيني وبين صاحبها عُهُود وأَيْمان، فتركوه وقصدوا الشّام.
وقيل: إنّ صاحب مصر لما رأى قوة السلجوقية واستيلاءهم عَلَى الشام ودخول أَتْسِز إلى القاهرة وحصارها، كاتب الفرنج يدعوهم إلى المجيء إلى الشام ليملكوه. -[666]-
وقيل: إنّهم عبروا خليج القُسْطنطينيّة وقدِموا بلاد قليج أرسلان بن سليمان بْن قُتُلْمش السَّلْجوقيّ، فالتقاهم، فهزموه في رجب سنة تسعين، واجتازوا ببلاد ليون الأرمني فَسَلكوها، وخرجوا إلى أنطاكية فحاصروها، فخاف ياغي سِيان من النَّصارى الذين هُمْ رعيته، فأخرج المسلمين خاصة لعمل الخندق، فأصلحوه، ثم أخرج النصارى كلهم من الغد لعمل الخندق أيضًا، فعملوا فيه إلى العصر، ومنعهم من الدخول، وأغلق الأبواب، وأَمِن غائلة النصارى، وحاصرته الفرنج تسعة أشهر، وهلك أكثر الفرنج قتلًا وموتًا بالوباء، وظهر من شجاعة ياغي سيان وحزمه ورأيه ما لم يشهد من غيره، وحفظ بيوت رعيّته النّصارى بما فيها، ثم إن الفرنج راسلوا الزّرّاد أحد المقدَّمين، وكان متسلّمًا برجًا من السور، فبذلوا له مالاً، فعامل على المسلمين وطلعوا إلى أن تكاملوا خمسمائة، فضربوا البوق وقت السَّحَر، ففتح ياغي سيان الباب، وهرب في ثلاثين فارسًا، ثمّ هرب نائبه في جماعة.
واستُبيحت أنطاكية، فإنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون، وذلك في جُمَادَى الأولى من سنة إحدى وتسعين، وأُسْقِط في يد ياغي سيان صاحبها، وأكل يديه ندماً حيث لم يقف ويقاتل عَنْ حُرَمه حتّى يقتل، فلشدة ما لحقه سقط مغشيا عَلَيْهِ، وأراد أصحابه أنّ يُرْكِبُوه، فلم يكن فيه حَيْلٌ يتماسك بِهِ، بل قد خارت قوّته، فتركوه ونجوا، فاجتاز بِهِ أَرمنيّ حطّاب، فرآه بآخر رَمَق، فقطع رأسه، وحمله إلى الفرنج.
وقال صاحب المرآة: وكثر النفير على الفرنج، وبعث السّلطان بَرْكِيارُوق إلى العساكر يأمرهم بالمسير مع عميد الدولة للجهاد، وتجهز سيف الدولة صدقة بن مُزْيَد، فجاءت الأخبار إلى بغداد بأنّ أنطاكية أخذت، وأن الفرنج صاروا إلى المَعَرَّة، وكانوا في ألف ألف إنسان، فنصبوا عليها السلالم، ودخلوها، وقتلوا بها مائة ألف نفس، وسبوا مثل ذَلِكَ، وفعلوا بكَفَرْطَاب كذلك.
قلت: دافع أهل المَعَرّة عَنْهَا، وقاتلوا قتال الموت حتّى خُذِلوا، فقتل بها عشرون ألفًا، فهذا أصح. -[667]-
وقال أبو يعلى ابن القلانسي: وأما أنطاكية فقتل بها وسبي من الرجال والنساء والأطفال ما لا يدركه حصر، وهرب إلى القلعة تقديرُ ثلاثة آلاف تحصنوا بها.
قَالَ أبو يَعْلَى: وبعد ذَلِكَ أخذوا المَعَرّة في ذي الحجة.
قَالَ ابن الأثير: ولمّا سمع قوام الدّولة كربوقا صاحب المَوْصِل بذلك، جمع الجيوش وسار إلى الشّام، ونزل بمرج دابق، فاجتمعت معه عساكر الشام، تُرْكُها وعَرَبُها، سوى جُنْد حلب، فاجتمع معه دقاق وطغتكين أتابك، وجناح الدّولة صاحب حمص، وأرسلان صاحب سنجار، وسقمان بن أرتق وغيرهم، فعظمت المصيبة على الفرنج، وكانوا في وهْن وقَحْط، وسارت الجيوش فنازلتهم، ولكن أساء كربوقا السيرة في المسلمين، وأغضب الأمراء وتحامق، فأضمروا لَهُ الشر، وأقامت الفرنج في أنطاكيّة بعد أنّ ملكوها ثلاثة عشر يوماً، ليس لهم ما يأكلونه، وأكل ضعفاؤهم الميتة وورق الشجر، فبذلوا البلد بشرط الأمان، فلم يعطهم كربوقا.
وكان بردويل، وصنجيل، وكندفري، والقمص صاحب الرها، وبيمنت صاحب أنطاكية، ومعهم راهب يرجعون إلَيْهِ، فقال: إنّ المسيح كانت لَهُ حَرْبَةٌ مدفونة بأنطاكية، فإن وجدتموها نُصِرْتُم، ودفن حرْبةً في مكانٍ عفّاه، وأمرهم بالصَّوم والتّوبة ثلاثة أيام، ثم أدخلهم إلى مكانٍ، وأمر بحفْره، فإذا بالحَرْبة، فبشّرهم بالظَّفَر وخرجوا للقاء، وعملوا مصافًا، فولّى بعض العساكر حرب كربوقا، لِما في قلبهم منه، وما كَانَ ذا وقت ذا، فاشتغل بعضهم ببعض، ومالت عليهم الفرنج، فهزمتهم، وهربوا من غير أن يقاتلوا، فظنت الفرنج أنّها مكيدة، إذ لم يجر قتال يوجب الهزيمة، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا خشية، فحطمتهم الفرنج، واستشهد يومئذ ألوف، وغنمت الفرنج من المسلمين معظم ثقلهم ورختهم.
ثمّ ساروا إلى المَعَرّة، فحاصروها أيامًا، ثمّ داخل المسلمين فشلٌ وهلعٌ، وظنوا أنهم إذا تحصنوا بالدُّور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور إلى -[668]- الدور، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم من السور، فصعدت الفرنج عَلَى السّلالم، ووضعوا فيهم السيف ثلاثة أيّام، وقتلوا ما يزيد عَلَى مائة ألف، وملكوا جميع ما فيها.
وساروا إلى عرقة، فحصروها أربعة أشهر، ونقّبوا أماكن، ثمّ صالحهم عليها صاحب شيزر ابن منقذ، فساروا ونازلوا حمص، ثمّ صالحهم جناح الدولة على طريق إلى عكا.
وفيها شغب الْجُنْد عَلَى السلطان بَركيَارُوق وقالوا: لا نسكت لك حتى تسلم إلينا مجد المُلْك القُمّيّ المستوفي - وكان قد أساء السيرة، وضيق أرزاقهم -، فقال القمي: نفسي فداؤك دعهم يقتلوني ويبقى عليك ملكك، فقال: والله لا مكنتهم منك، وعزم عَلَى إخفائه، فقيل لَهُ: متي خرج عنك قتلوه، ولكن اشفع فيه، فبعثه وقال للأمراء: السلطان يشفع إليكم فيه، فثاروا به وقتلوه، ثم جاؤوا وقبلوا الأرض بين يدي بركياروق، فسكت.
وقال أبو يعلى: وفيها سار أمير الجيوش أحمد حتّى نازل بيت المقدس وحاصره، وأخذه من سُقْمان بْن أُرْتُق.