فيها نازل سليمان بن قتلمش حلب لما قتل شرف الدولة، وأرسل إلى نائبها ابن الحُتَيْتيّ العباسي يطلب منه أن يسلمها إليه، فقدّم تقدمة، واستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه. وأرسل العباسي إلى صاحب دمشق تُتُش، وهو أخو السّلطان يحرضه على المجيء ليتسلم البلد. فسار تُتُش -[320]- بجيشه، فقصده قبل أن يصل إليها سُليمان، وكان مع تُتُش أرتق التركماني جدّ أصحاب ماردين، وكان شجاعًا سعيدًا، لم يحضر مصَافًا قط إلًا وكان الظفر له. وقد كان فارق ابن جَهير لأمر بدا منه، ولحق بتاج الدولة تتش، فأعطاه القدس. والتقى الجمعان، وأبلى يومئذٍ أرتق بلاءً حسنًا، وحرَّض العرب على القتال، فانهزم عسكر سُليمان، وثبت سُليمان بخواصه إلى أن قُتِل، وقيل: بل أخرج سِكّينًا عند الغَلَبة قتلَ بها نفسه. ونهب أصحاب تُتُش شيئًا كثيرًا، ثمّ إنه سار لأخذ حلب فامتنعوا، فحاصرهم وأخذها بمخامرة جرت.
وأما السّلطان فإنّ البُرْدَ وصلت إليه بشُغُور حلب من ملكٍ، فساق بجيوشه من إصبهان، فقدمها في رجب، وهرب أخوه عنها ومعه أرتق. وكانت قلعة حلب عاصيةً مع سالم ابن أخي شرف الدّولة، فسلّمها إلى السّلطان، وعوضه عنها بقلعة جَعْبَر، فبقيت في يده ويد أولاده إلى أن أخذها السلطان نور الدين.
وأرسل الأمير نصر بن عليّ بن منقذ إلى السلطان ملكشاه يبذل الطاعة، وسلم إليه لاذقية وكفرطاب وفامية، فترك قصده وأقره على شَيْزَر. ثمّ سلم حلب إلى قسيم الدولة آقسنقر، فعمرها وأحسن السيرة. وأمّا ابن الحُتَيتيّ فإنّ أهلها شكوه، فأخذه السّلطان معه، وتركه بديار بكر، فافتقر وقاسى. وأما ولده فقتلته الفرنج بأنطاكية لمّا ملكوها.
خبر وقعة الزلاقة بالأندلس: وهو أنّ الأدفونش - لعنه الله - تمكّن وتمرد، وجمع الجيوش فأخذ طُلَيْطُلة، فاستعان المسلمون بأمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش، فبادر وعدّى بجيوشه، واجتمع بالمعتمد بن عبّاد بإشبيلية، وتهيأ عسكرها وعسكر قُرْطُبة، وأقبلت المطوعة من النواحي. وسار جيش الإسلام حتّى أتوا الزلاقة - من عمل بطليوس - وأقبلت الفرنج، وتراءى الجمعان، فوقع الأدفونش على ابن عبّاد قبل أن يتواصل جيش ابن تاشفين، فثبت ابن عبّاد وأبلى بلاءً حسنًا، وأشرف المسلمون على الهزيمة، فجاء ابن تاشفين عرضًا، فوقع على خيام الفرنج فنهبها وقتل من بها، فلم تتمالك النصارى لما رأت ذلك أن انهزمت، فركب ابن عبّاد أقفيتهم، ولقيهم ابن تاشفين من بين أيديهم، ووضع فيهم السيف، فلم ينج منهم إلّا القليل، ونجا الأدفونش في طائفة. وجمع المسلمون من رؤوس الفرنج كومًا كبيرًا وأذّنوا عليه، ثمّ أحرقوها لما جيفت. وكانت الوقعة يوم الجمعة في أوائل رمضان، وأصاب المعتمد بن عبّاد جراحات سليمة في وجهه. وكان العدو خمسين ألفًا، فيقال: إنه لم يصل منهم إلى بلادهم ثلاثمائة نفس. وهذه ملحمة لم يعهد مثلها، وحاز المسلمون غنيمة عظيمة. -[321]-
وطابت الأندلس للملثّمين، فعمل ابن تاشفين على أخذها، فشرع أوّلًا، وقد سار في خدمته ملك غرناطة، فقبض عليه وأخذ بلده، واستولى على قصره بما حوى، فيقال: إنّ في جملة ما أخذ أربعمائة حبة جوهر، فقوَّمت كلّ واحدةٍ بمائة دينار.
ونقل ابن الأثير أنّ ابن تاشفين أرسل إلى المقتدي بالله العباسيّ يطلب أن يسلطنَه، فبعث إليه الخِلع والأعلام والتّقليد، ولقِّب بأمير المسلمين.
ولمّا افتتح السّلطان ملكشاه حلب والجزيرة، رجع ودخل بغداد، وهو أوّل دخوله إليها، فنزل بدار المملكة ولعب بالكُرة، وقدَّم تقادم للخليفة، ثمّ قدِم بعده نظام المُلْك. ثمّ سار فزار قبور الصالحين، وفيه يقول ابن زكَرَوْيه الواسطيّ:
زُرْتَ المشاهدَ زَوْرةً مشهودةً ... أرْضت مضاجع من بها مدفونُ
فكأنّك الغَيْثُ استهلّ بتُربها؛ ... وكأنّها بك روضةٌ ومعينٌ
ثمّ خرج وتصيّد، وأمر بعمل منارة القرون من كثرة ما اصطاد من الغزلان وغيرها. ثمّ جلس له الخليفة ودخل إليه وأفرغ الخِلَع عليه. ولم يزل نظام المُلْك قائمًا يقدَّم أميرًا أميرًا إلى الخليفة، وكلما قدَّم أميرًا قال: هذا العبد فلان، وأقطاعه كذا وكذا، وعدّة رجاله وأجناده كذا وكذا؛ إلى أن أتى على آخرهم. ثمّ خلع على نظام المُلْك. وكان يومًا مشهودًا.
وجلس نظام المُلْك بمدرسته، وحدَّث بها، وأملى مجلسًا. ثمّ سار السّلطان من بغداد إلى إصبهان في صَفَر من سنة ثمانين.
وفيها كانت فتنة هائلة بين السُّنّة والشّيعة، وكادت الشّيعة أن تهلك، ثمّ حجز بينهم الدّولة.
وفيها قدِم الشريف أبو القاسم عليّ بن أبي يَعْلَى الحُسينيّ الدّبّوسيّ بغداد في تجمُّل عظيم لم يُرَ مثلُه لِعالِم، ورُتب مدرسًا بالنّظاميّة بعد أبي سعد المتولّي.
وفيها زوّج السّلطان أخته زليخا بابن صاحب الموصل، وهو محمد ابن شرف الدّولة مسلم بن قريش، وأقطعه الرحْبَة، وحَرّان، والرَّقَّة، وسَرُوج، والخابور. وتسلَّم هذه البلاد سوى حَرّان، فإنّ محمد بن الشّاطر امتنع من تسليمها مدّة، ثمّ سلّمها. -[322]-
وفيها عُزِل فخر الدّولة بن جهير عن ديار بكر بالعميد أبي على البلْخيّ، بعثه السّلطان وجعله عاملاً عليها.
وفيها أُسقطت خطبة صاحب مصر المستنصر بالحَرَمَيْن، وخطب لأمير المؤمنين المقتدي.
وفيها أسقط السّلطان المكوس والاجتيازات بالعراق.
وفيها حاصر تميم بن باديس قابِس وسَفَاقُس، وفرق عليهما جيوشه.