فلما نَزَلَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحصنهم - وكانوا في أعلاه - نادى بأعلى صوته نفرًا من أشرافها حتى أسمعهم، فقال: أجيبونا يا معشر يهود يا أخوة القِرَدَة، لقد نزل بكم خِزْي الله. فحاصرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، وردّ الله حُيَيّ بنَ أخطب حتى دخل حصنَهُم، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، واشتدّ عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لُبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار. فقال: لا آتيهم حتى يأذن لِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: قد أذِنْتُ لك. فأتاهم، فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لُبابة، ماذا ترى، فأشار بيده إلى حلقه، يريهم أن ما يراد بكم القتل. فلما انصرف سُقِط في يده، ورأى أنّه قد أصابته فتنةٌ عظيمة فقال: والله لا أنظر فِي وَجَّهَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أحدِث لله توبةً نَصُوحًا يعلمها الله من نفسي. فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذعٍ من جذوع المسجد. فزعموا أنّه ارتبط قريبًا من عشرين لَيْلَةٍ.
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذُكر - حين راث عليه أبو لُبابة: أما فرغ أبو لُبابة من حلفائه؟ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد - والله - انصرف من عند الحصن، وما ندري أين سلك. فقال: قد حدث له أمر. فأقبل رجل فقال: يا رسول الله، رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جِذْعٍ من جذوع المسجد. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له. فإذ فعل هذا فلن أحرّكه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما شاء.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، فذكر نحو ما قص موسى بن عقبة. وعنده: فلبس رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمَتَه وأذَّن بالخروج، وأمرهم أن يأخذوا السلاح. ففزغ النّاس للحرب، وبعث عليًّا عَلَى المقدّمة ودفع إليه اللواء. ثُمَّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى آثارهم. ولم يقل بضع عشرة ليلة.
وقال يونس بن بُكَيْرَ، والبكائي - واللَّفظ له - عَنِ ابن إسحاق قَالَ: حاصرهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا وعشرين ليلةً، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وقد كان حُيَيّ بنُ أخطب دخل مع بني قُرَيْظة في