-سنة خمسين وأربعمائة

فيها خُطب للمستنصر باللَّه العُبيْديّ على منابر العراق، وخُلِع القائم بأمر اللَّه.

وكان من قصة ذلك أنّ السّلطان طغرلبك اشتغل بحصار تلك النواحي ونازل الموصل. ثم توجه إلى نصيبين لفتح الجزيرة وتمهيدها، وراسل البساسيريُّ إبراهيم ينال أخا السُّلطان يعِدهُ ويُمنّيه ويُطمعه في المُلك. فأصغى إليه وخالف أخاه، وساق في طائفةٍ من العسكر إلى الرّيّ. فانزعج السُّلطان وسار وراءه، وترك بعض العسكر بديار بكر مع زوجته ووزيره عميد المُلْك الكُنْدُريّ وربيبه أنوشروان. فتفرّقت العساكر وعادت زوجته الخاتون بالعسكر إلى بغداد.

وأمّا السلطان فالتقى هو وأخوه فظهر عليه أخوه، فدخل السلطان همذان، فنازله أخوه وحاصره. فعزمت الخاتون على إنجاد زوجها، واختبطت بغداد، واستفحل البلاء، وقامت الفتنة على ساق، وتمّ للبساسيريّ ما دبّر من المكر، وأرجف الناس بمجيء البساسيري إلى بغداد، ونفر الوزير الكُندري وأنوشروان إلى الجانب الغربيّ وقطعا الجسر، ونهبت الغّزّ دار الخاتون، وأكل القوي الضعيف، وجرت أمور هائلة.

ثم دخل البساسيريّ بغداد في ثامن ذي القعدة بالرايات المستنصريّة عليها ألقاب المستنصر، فمال إليه أهلُ باب الكرْخ وفرحوا به، وتشفّوا بأهل السُّنة، وشمخت أنوف المُنافقين، وأعلنوا بالَأذان بحيّ على خير العمل.

واجتمع خلْقُ من أهل السُّنة إلى القائم بأمر اللَّه، وقاتلوا معه، ونشبت الحرب بين الفريقين في السُّفن أربعة أيّام، وخُطِب يوم الجمعة ثالث عشر ذي -[617]- القعدة ببغداد للمُستنصر العُبيْديّ بجامع المنصور، وأذّنوا بحيّ على خير العمل، وعُقد الْجِسر، وعبرت عساكر البساسيري إلى الجانب الشرقي، فخندق القائم على نفسه حول داره وحوّل نهر المُعَلّى، وأحرقت الغَوغاء نهر المُعَلّى ونُهِب ما فيه، وقوي البساسيريّ، وتقلّل عن القائم أكثر الناس، فاستجار بقُريش بن بدران أمير العرب، وكان مع البساسيريّ، فأجاره ومن معه، وأخرجه إلى مخيمه.

وقبض البساسيري على وزير القائم رئيس الرؤساء أبي القاسم ابن المسلمة، وقيّده وشهَّره على جملٍ عليه طرطور وعباءة، وجعل في رقبته قلائد كالمسخرة، وطيف به في الشوارع وخلفه من يصفعه. ثُمَّ سلخ له ثور وألبس جلده وخيط عليه، وجعلت قرون الثور بجلدها في رأسه. ثُمَّ عُلّق على خشبة وعُمِل في فكيه كلوبين، فلم يزل يضطرب حتى مات رحمه الله.

ونُصِب للقائم خيمةُ صغيرة بالجانب الشرقيّ في المُعسكر، ونهبت العامّة دار الخلافة، وأخذوا منها ما لا يحصى ولا يوصف. فلمّا كان يوم الجمعة رابع ذي الحجّة لم تُصلَّ الجمعة بجامع الخليفة، وخُطَب بسائر الجوامع للمستنصر، وقطعت الخطبة العباسية بالعراق. ثُمّ حُمَلَ القائم بأمر اللَّه إلى حديثة عانة، فاعتُقَل بها وسُلّم إلى صاحبها مُهارش، وذلك لَأن البساسيريّ وقُريش بن بدران اختلفا في أمره، ثم وقع اتفاقهما على أن يكون عند مهارش إلى أن يتّفِقا على ما يفعلان به. ثم جمع البساسيريّ القُضاة والَأشراف، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر صاحب مصر، فبايعوا قهرًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال عزّ الدين ابن الْأثير في " تاريخه ": إنّ إبراهيم ينال كان أخوه السلطان طغرلبك قد ولّاه الموصَل عام أول، وأنّه في سنة خمسين فارق الموصِل ورحل نحو بلاد الجبل، فنسب السُلطان رحيله إلى العصيان، فبعث وراءه رسولًا معه الفرجيّة الّتي خلعها عليه الخليفة. فلما فارق الموصِل قصدها البساسيريّ وقريش بن بدران وحاصراها؛ فأخذا البلد ليومه، وبقيت القلعة -[618]- فحاصراها أربعة أشهُر حتّى أكل أهلها دوابّهم ثُمّ سلّموها بالَأمان، فهدمها البساسيريّ وعفى أثرها، وسار طغرلبك جريدةً في ألفين إلى الموصل، فوجد البساسيري وقريشًا قد فارقاها، فساق وراءهم، ففارقه أخوه وطلب همذان، فوصلها في رمضان.

قال: وقد قيل إن المصريين كاتبوه، وأنّ البساسيري استماله وأطمعه في السَّلْطَنة، فسار طغرلبك في أثره.

قال: وأما البساسيري فوصل إلى بغداد في ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة فارس على غاية الضر والفَقْر، فنزل بمُشرعة الرّوايا، ونزل قريش في مائتي فارس عند مُشْرعة باب البصرة، ومالت العامة إلى البساسيري، أمّا الشّيعة فللمذهب، وأمّا السُّنة فلِما فعل بهم الْأتراك.

وكان رئيس الرؤساء لقلّة معرفته بالحرب، ولِما عنده من البساسيريّ يرى المبادرة إلى الحرب. فاتّفقّ أنّ في بعض الأيّام التي تحاربوا فيها حضر القاضي الهمذانيّ عند رئيس الرؤساء، ثم استأذن في الحرب وضمن له قتل البساسيريّ من غير أن يعلم عميد العراق، وكان رأي عميد العراق المطاولة رجاء أن ينجدهم طغرلبك. فخرج الهمذاني بالهاشميين والخَدَم والعوامّ إلى الحلبة وأبعدوا، والبساسيريّ يستجرّهم، فلما أبعدوا حمل عليهم، فانهزموا وقُتل جماعة وهلك آخرون في الزحمة، ووقع النهب بباب الْأزْج.

وكان رئيس الرؤساء واقفًا، فدخل داره وهرب كل من في الحريم، ولطم العميد على وجهه كيف استبد رئيس الرؤساء بالَأمر ولا معرفة له بالحرب. فاستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرُعْهُمْ إِلَّا والزَّعْقَات، وقد نُهِب الحريم، ودخلوا من باب النُّوبي، فركب الخليفة لابسًا السواد، وعلى كتفه البردة، وعلى رأسه اللواء، وبيده سيف، وحوله زمرة من العبّاسيين والخدم بالسيوف المسلولة فرأى النهب إلى باب الفردوس من داره. فرجع إلى ورائه نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد إلى المَنْظَرة، وصاح رئيس الرؤساء: يا علم الدين يعني قريشًا، أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه، فقال: قد أنالك اللَّه منزِلةً لم يُنَلها أمثالك، أمير المؤمنين يستذمُّ منك على نفسه وأصحابه بذِمام اللَّه وذِمام رسوله وذِمام -[619]- العربيّة. قال: نعم، وخلع قَلَنْسُوَتَهُ فأعطاها للخليفة وأعطى رئيس الرؤساء محضرة ذِمامًا، فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء وسارا معه. فأرسل إليه البساسيريّ: أتُخالِفُ ما استقرّ بيننا؟ فقال قريش: لَا.

ثُمَّ اتفقا على أن يُسلَّم إليه رئيس الرؤساء ويترك الخليفة عنده، فسلّمه إليه، فلما مثل بين يديه قال: مرحبا بمهلك الدول ومُخرّب البلاد. فقال: العفو عند المقدرة.

قال: قد قدرت أنت فما عَفَوْت، وأنت صاحب طيلسان، وركبت الْأفعال الشنيعة مع حُرَمي وأطفالي، فيكف أعفو أنا، وأنا صاحب سيف.

وأمّا الخليفة فحمله قريش إلى مخيّمه، وعليه البُرْدة وبيده السيف، وعلى رأسه اللِّواء، وأنزله في خيمه، وسلّم زوجته بنت أخي السلطان طغرلبك إلى أبي عبد اللَّه بن جردة ليقوم بخدمتها، ونهبت دار الخلافة وما والاها أيّامًا، وسلّم قريش الخليفة إلى ابن عمّه مهارش بن مجلّي، وهو دينٌ ذو مروءة، فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة، فنزل بها، وسار حاشية الخليفة على حامية إلى السلطان طغرلبك مستنفرين له، ولمّا وصل الخليفة إلى الأنبار شكى البرد، فبعث يطلب من متولّيها ما يلبس، فأرسل إليه جبّةً ولحافًا.

وركب البساسيري يوم الْأضحى، وعلى رأسه الْألوية المصريّة، وعبر إلى المصلّى بالجانب الشرقي، وأحسن إلى النّاس، وأجرى الجرايات على الفقهاء، ولم يتعصّب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة دارا وراتبا، وكانت قد قاربت التسعين.

وفي آخر ذي الحجة أخرى رئيس الرؤساء مقيّدًا وعليه طرطور، وفي رقبته مخنقة جلود وهو يقرأ: {قل اللهم مالك الملك}. . الْآية، فبصق أهل الكرخ في وجهه لَأنه كان يتعصّب للسُّنة، ثُمَّ صُلِبَ كما تقدّم.

وأمّا عميد العراق فقتله البساسيريّ أيضًا، وكان شُجاعًا شَهْمًا فيه فُتُوّة وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ.

ثُمّ بعث البساسيريّ بالبشارة إلى مصر، وكان وزيرها أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب من البساسيري، فذمّ فِعْله، وخوّف من سوء عاقبته. فتُرِكت أجوبته مُدّة، ثمّ عادت بغير الذي أمّله. -[620]-

وسار البساسيري إلى وسط والبصرة فملكها وخطب بها للمصريين.

وأمّا طغرلبك فإنه انتصر على أخيه وقتله، وكرّ راجعًا إلى العراق ليس له همّ إلا إعادة الخليفة إلى رتبته وعزه.

وحكى الحسن بن محمد القيلويي في " تاريخه ": أن الذي وصل إلى البساسيريّ من جهة المصريين من المال خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك، وخمسمائة فَرَس وعشرة آلاف قوس، ومن السيوف ألوف، ومن الرِّماح والنِّشاب شيء كثير، وصل كل ذلك إليه إلى الرحبة.

وفيها قدم على إمرة دمشق الْأمير ناصر الدولة وسيفها أبو محمد الحسن بن حمدان دفعة ثانية في رجب، واللَّه أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015