50 - محمود بن سبكتكين، السلطان الكبير أبو القاسم يمين الدولة ابن الأمير ناصر الدولة أبي منصور.

50 - محمود بن سُبُكْتِكِين، السّلطان الكبير أبو القاسم يمين الدّولة ابن الأمير ناصر الدّولة أبي منصور. [المتوفى: 421 هـ]

وقد كان قبل السّلطنة يُلقَّب بسيف الدّولة. قدِم سُبُكْتِكِين بُخارى في أيّام الأمير نوح بن منصور السّاماني، فوردها في صُحْبة ابن السُّكَيْن، فعرفه أركان تلك الدّولة بالشّهامة والشّجاعة، وتوسَّموا فيه الرّفْعَة.

فلمّا خرج ابن السُّكَيْن إلى غَزْنَةَ أميرًا عليها خرج في خدمته سُبُكْتكين، فلم يلبث ابن السُّكِين أن توفي، واحتاج النّاسُ إلى من يتولى أمرهم فاتفقوا على سبكتكين وأمروه عليهم. فتمكن وأخذ في الإغارات على أطراف الهند. فافتتح قلاعا عديدة، وجرى بينه وبين الهند حروب، وعظمت سطوته، وفتح ناحية بست، واتصل به أبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب، فاعتمد عليه وأسر إليه أموره.

وكان سبكتكين على رأي الكرامية. قال جعفر المستغفري: كان أبو -[370]- القاسم عبد الله بن عبد الله بن الحسين النَّضريّ المروزي قاضي نسف صلب المذهب، فلما دخل سبكتكين صاحب غَزْنَة بَلخ دعاهم إلى مناظرة الكَراميّة وكان النَّضري يومئذٍ قاضيا ببلْخ، فَقَالَ سبكتكين: ما تقولون فِي هَؤُلاءِ الزُّهاد الْأولياء؟ فقال النَّضْريّ: هؤلاء عندنا كَفَرة. فقال: ما تقولون فيَّ؟ قال: إن كنت تعتقدُ مذهبهم فقَولُنا فيك كقولنا فيهم. فوثب من مجلسه وجعل يضربهم بالطَّبَرزين حتّى أدماهم، وشجّ القاضي، وأمر بهم فحبسوا وقيدوا. ثم خاف الملامةَ فأطلقهم.

ثمّ إنّه مرِض ببلْخ، فاشتاق إلى غَزْنَة، فسافر إليها ومات في الطّريق في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وجعل وليّ عهدِه ولده إسماعيل.

وكان محمود غائبًا ببلْخ، فلمّا بلغه نعي أبيه كتَب إلى أخيه ولاطَفَه على أن يكون بغَزْنَة، وأن يكون محمود بخُراسان. فلم يوافقه إسماعيل، وكان في إسماعيل رخاوة وعدم شهامة، فطمع فيه الْجُنْد وشغّبوا عليه، وطالبوه بالعَطَاء، فأنفق فيهم الخزائن.

فدعا محمود عمَّهُ إلى موافقته، فأجابه، وكان الأخ الثالث نصر بن سبكتكين أميرا على بست، فكاتبه محمود فأجابه فقويّ بعمِّه وبأخيه، وقَصَد غَزْنَة في جيشٍ عظيم، وحاصرها إلى أن افتتحها بعد أن عمل هو وأخوه مَصّافًا هائلًا، وقُتِل خلقٌ من الجيش، وانهزم أخوه إسماعيل وتحصَّن. فنازل حينئذٍ محمود البلَد، وأنزل أخاه من قلعتها بالأمان. ثمّ رجع إلى بَلْخ، وحبس أخاه ببعض الحصون حبْسًا خفيفًا، ووسَّع عليه الدّنيا والخَدَم.

وكان في خُراسان نوابٌ لصاحب ما وراء النَّهر من الملوك السَّامانية، فحاربهم محمود ونُصِر عليهم، واستولى على ممالك خُراسان، وانقطعت الدّولة السّامانية في سنة تسعٍ وثمانين. فسيَّر إليه القادر بالله أمير المؤمنين خلعة السلطنة.

وعظُم ملكُه، وفرض على نفسه كلَّ عامٍ غَزْوَ الهند، فافتتح منها بلادًا واسعة، وكسر الصَّنم المعروف بسُومنات، وكانوا يعتقدون أنّه يُحيي ويُميت، ويقصدونه مِن البلاد، وافتتن به أممٌ لا يُحصيهم إلّا الله. ولم يبقَ ملك ولا محتشم إلّا وقد قرَّب له قُرْبانًا من نفيس ماله، حتّى بلغت أوقافه عشرةَ آلاف قرية، وامتلأت خزانته من أصناف الأموال والجواهر، وكان في خدمة هذا الصّنم ألف رجل من البراهمة يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس -[371]- الحجاج إليه ولحاهم عند القدوم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنّون ويرقصون عند بابه.

وكان بين الإسلام وبين القلعة الّتي فيها هذا الوَثن مسيرة شهرٍ، في مَفَازةٍ صَعْبَةٍ، فسار إليها السّلطان محمود في ثلاثين ألف فارس جريدةً، وأنفق عليهم أموالًا لا تُحصى، فأتوا القلعةَ فوجدوها منيعة، فسهل الله بفتحها في ثلاثة أيّامٍ، ودخلوا هيكلِ الصّنمِ، فإذا حوله من أصناف الأصنام الذَّهب والفضة المُرصَّعة بالجواهر شيءٌ كثير، محيطون بعَرْشه، يزعمون أنّها الملائكة. فأحرقوا الصَّنم الأعظم ووجدوا في أُذُنيه نيِّفًا وثلاثين حلْقةً. فسألهم محمود عن معنى ذلك، فقالوا: كلُّ حلْقةٍ عبادة ألف سنة.

ومن مناقب محمود بن سُبُكْتِكِين ما رواه أبو النَّضر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفاميّ قال: لمّا وردَ التَّاهَرْتيّ الداعي من مصر على السلطان محمود يدعوه سرا إلى مذهب الباطنية، وكان يركب البغل الذي أتى به معه، وذاك البغل يتلون كل ساعة من كل لون، ووقف السلطان محمود على شر ما كان يدعو إليه، وعلى بطلان ما حثه عليه أمر بقتله وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزْديّ الشافعي شيخ هراة، وقال السّلطان: كان يركبه رأس الملحدين، فلْيَرْكَبْه رأسُ الموحّدين.

ولولا ما في السّلطان محمود من البِدْعة لَعُدَّ من ملوك العدْل.

وذكر إمام الحَرَميْن الْجُوَينيّ أنّ السّلطان محمود كان حنفيّ المذهب مولعًا بعلم الحديث، يسمع من الشيوخ ويستفسر الأحاديث، فوجدها أكثرها موافقًا لمذهب الشّافعيّ، فوقع في نفسه، فجمع الفُقَهاء في مرو، وطلبَ منهم الكلام في ترجيح أحد المَذْهَبَين. فوقع الاتفاق على أن يُصَلُّوا بين يديه على مذهب الإمامين ليختار هو.

فصلّى أبو بكر القفّال المروزي بطهارةٍ مُسْبِغةٍ، وشرائطَ مُعْتَبرةٍ من السُّتْرَة والقِبْلَةِ، والإتيان بالأركان والفرائض صلاةً لا يجوّز الشّافعي دونها.

ثمّ صلّى صلاةً على ما يجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه، فلبس جلد كلبٍ مدبوغًا قد لُطِّخ رُبْعُهُ بالنَّجاسة، وتوضّأ بنبيذ التمر، وكان في الحرّ، فاجتمع عليه البَعُوض والذُّباب، وتوضَّأ منكِّسًا، ثمّ أحرم، وكبر بالفارسية، وقرأ -[372]- بالفارسيّة " دو بركك سَبْز " ثمّ نقر نقرتين كنقرات الدِّيك من غير فصْلٍ ولا رُكُوع ولا تَشَهُّد، ثمّ ضرط في آخره من غير نية السلام، وقال: هذه صلاة أبي حنيفة! فقال: أن لم تكن هذه الصّلاة صلاة أبي حنيفة لَقَتَلْتُكَ!

قال: فأنكرتِ الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمرَ القفّال بإحضار كتب أبي حنيفة، وأمر السّلطان نصرانيا كاتبًا يقرأ المذهبين جميعًا، فوُجِدت كذلك. فأعرض السّلطان عن مذهب أبي حنيفة، وتمسّك بمذهب الشافعي، هكذا ذكره إمامُ الحرمين بأطول من هذه العبارة.

وقال عبد الغافر بن إسماعيل الفارسيّ في ترجمة محمود السّلطان: كان صادقَ النّيّة في إعلاء كلمة الله، مظفَّرًا في الغزوات، ما خَلَتْ سنةٌ من سِنِيّ مُلكه عن غزوةٍ وسَفْرةٍ، وكان ذكيا بعيد الغَوْرِ، موفَّقُ الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء، وقبره بغَزْنَة يُدْعى عنده.

وقال أبو عليّ ابن البناء: حكى عليّ بن الحُسين العُكْبَريّ أنّه سمع أبا مسعود أحمد بن محمد البَجَليّ، قال: دخل ابن فُورَك على السُّلطان محمود، فقال: لا يجوز أن يوصف الله بالفَوْقيّة؛ لأنه يلزمك أن تَصِفَه بالتَّحْتيّة؛ لأن من جاز له أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال السّلطان: ليس أنا وصفته حتّى تُلْزِمَني، هو وصف نفسه. فبُهِت ابن فُورَك. فلمّا خرج من عنده مات، فيقال: انشقت مرارته.

وقال عبد الغافر: قد صُنِّف في أيّام محمود وغزواته تواريخ، وحُفِظَت حركاتُه وسكناتُه وأحواله لحظةً لحظة، وكانت مستغرقة في الخيرات ومصالح الرِّعية، وكان متيقّظًا ذكي القلب، بعيد الغَوْر. يسَّرَ الله له من الأسباب والجنود والهيبة والحشْمة في القلوب ما لم يره أحد. كان مجلسه مورد العلماء. -[373]-

قلت: وقال أَبُو النَّصر مُحَمَّد بْن عَبْد الجبّار العُتْبي الأديب في كتاب " اليمينيّ " في سيرة هذا السلطان: رحم الله أبا الفضل الهمذاني حيث يقول في يمين الدولة وأمين الملة محمود:

تعالى الله ما شاءَ ... وزاد اللهُ إيماني

أَأَفريدون في التّاج ... أَم الإسكندرُ الثّاني؟

أم الرَّجْعَة قد عادت ... إلينا بسليمانِ؟

أَظَلَّت شَمسُ محمود ... على أَنجمِ سامانِ

وأمسى آلُ بهرامٍ ... عبيدًا لابن خاقانِ

إذا مَا ركب الفيل ... لحرب أو لميدانِ

رأت عينكَ سُلطانًا ... على مَنْكبِ شيطانِ

فمن واسطة الهند ... إلى ساحة جرجانِ

ومن قاصية السِّند ... إلى أقصى خراسانِ

فيوما رسل الشّاه ... ويوما رُسُل الخانِ

لك السَّرجُ إذا شئت ... على كاهل كيوانِ

قلتُ: ومناقب محمود كثيرة، وسيرته من أحسن السيرة، وكان مولده في سنة إحدى وستين وثلاثمائة ومات بغَزْنَة في سنة إحدى، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، وقام بالسّلطنة بعده ولده محمد، فأنفق الأموال، وكان منهمكًا في اللَّهو واللَّعب، فعمل عليه أخوه مسعود بإعانة الأمراء فقبض عليه، واستقرّ المُلك لمسعود.

ثمّ جرت خُطُوب وحروب لمسعود مع بني سُلْجوق، إلي أن قتل مسعود سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتملَّك آلُ سُلْجوق، وامتدَّت أيّامُهم، وبقي منهم بقية إلى زمان السّلطان الملك الظَّاهر بَيْبَرس، وهم ملوك بلد الروم.

قال أبو الحسن عبد الغافر: تُوُفّي في جُمَادى الأولى سنة إحدى بغزنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015