في المحرَّم قُرئ بدار الخلافة كتاب بمذاهب السُنة وفيه: " مَن قَالَ القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدّم " إلى غير ذَلِكَ من أصول السنة.
وفيها زاد ماء البحر إِلَى أن وصل إلى الأُبُلة، ودخل إلى البصرة.
وفيها ورد سلطان الدولة إلى بغداد.
وفيها غزا السلطان محمود الهند، وافتتح مدينتي مهرة وقنوج، وكان فتحًا عزيزًا، وبين ذلك وبين غَزْنَة مسيرة ثلاثة أشهر.
قَالَ أبو النّصر في تاريخه: عدل السلطان بعد أخذ خوارزم إلى بُسْت -[20]- ثمّ إلى غزْنة، فأتفقَ أن حشد إليه مِن أدني ما وراء النّهر زُهاء عشرين ألفًا من المطّوّعة، فحرّك من السّلطان محمود نفيرهم، وردّ من نفوس المسلمين تكبيرهم، واقتضى رأيه أن يزحف بهم إلى قنوج، وهي التي أعيت الملوك غير كشتاسب عَلَى ما زعمته المجوس، وهو ملك الملوك في زمانه، فزحف السّلطان بهم وبجنوده وعبرَ مياه سَيْحون وتلك الأودية التّي تجلّ أعماقها عَنِ الوصْف، ولم يطأ مملكةً من تِلْكَ الممالك إلا أتاه الرَّسُول واضعًا خدّ الطّاعة، عارضا في الخدمة كنه الاستطاعة إلى أن جاء جنكي بن سمهي صاحب درب قشمير عالمًا بأنه بعثُ الله الّذي لا يرضيه إلا الإسلام أو الحسام، فضمن إرشاد الطرّيق، وسار أمامه هاديا. فما زال يفتتح الصياصي والقلاع حتى مر بقلعة هردب، فلمّا رأى ملكُها الأرض تموج بأنصار الله ومن حولها الملائكة، زُلْزِلت قدَمُه، وأشفق أن يُراقَ دمه، ورأى أن يتّقي بالإسلام بأس الله، وقد شُهِرت حدوده ونُشِرت بعذبات العذاب بنوده، فنزل في عشرة آلاف منادين بدعوة الإسلام.
ثمّ سار بجيوشه إلى قلعة كلجند، وهو من رؤوس الشياطين، فكانت له ملحمة عظيمة، هلكَ فيها من الكُفار خمسون ألفًا، من بين قتيل وحريق وغريق. فعمد كلجند إلى زوجته فقتلها، ثمّ ألحقَ بها نفسه، وغنم السلطان مائة وخمسة وثمانين فيلًا. -[21]-
ثم عطف إلى البلد الذي يسمى المتعبد وهو مهرة الهند يطالع ابنيتها الّتي تزعم أهلها أنها من بناء الجن، فرأى ما يخالف العادات، وتفتقر روايتها إلى الشّهادات، وهى مشتملة عَلَى بيوت أصنام بنقوشٍ مبدعة، وتزاويق تخطف البصر.
قَالَ: وكان فيما كتب بِهِ السّلطان: أنّه لو أراد مُريد أن يبني ما يعادل تِلْكَ الأبنية لعجز عنها بإنفاق مائة ألف ألف درهم في مدة مائتي سنة عَلَى أيدي عَمَلَة كَمَلَة ومَهَرة سَحرة. وفي جملة الأصنام خمسة من الذَّهب معمولة طول خمسة أذرُع، عينا واحدٍ منها ياقوتتان قيمتهما خمسون ألف دينار بل أزْيَد، وعلى آخر ياقوتة زرقاء وزنها أربعمائة وخمسون مثقالًا، فكان جملة الذّهبيّات الموجودة عَلَى أحد الأصنام المذكورة ثمانية وتسعين ألف مثقال. ثم أمر السلطان بسائر الأصنام فَضُربَت بالنِّفْط، وحاز من السبايا والنهاب ما تعجز عَنْهُ أناملُ الحُساب.
ثمّ سار قُدُما يروم قنوج وخلّف معظم العسكر، فوصل إليها في شعبان سنة تسع، وقد فارقها الملك راجيبال منهزما، فتتبع السلطان قلاعها، وكانت سبعا عَلَى البحر، وفيها قريبٌ من عشرة آلاف بيت من الأصنام، يزعم المشركون أنها متوارثة منذ مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف سنة كذبًا وزورًا، ففتحها كلَّها في يوم واحد، ثمّ أباحها لجيشه فانتهبوها.
ثمّ ركض منها إلى قلعة البراهمة وتعرف بمنج فافتتحها وقتل بها خلقًا كثيرًا.
ثمّ افتتح قلعة جنداري، وهي ممن يُضرب المثل بحصانتها. وذكر أبو النّصر ذَلِكَ مطولًا مفصّلًا بعبارته الرائقة، فأسهب وأطنب. فلقد أقَّر عين السّامع، وسر المسلم بهذا الفتح العظيم الجامع، فلله الحمد عَلَى إعلاء كلمة -[22]- الإسلام، وله الشُّكر عَلَى إقامة هذا السّلطان الهُمام.
وبعد الأربعمائة كَانَ قد غلب عَلَى بلاد ما وراء النّهر أيلك خان أخو صاحب التُرك طُغَان الكبير، وهما مهادنان للسّلطان يمين الدّولة محمود بن سُبُكْتكين، فقويت نفوسهما عليه، ومكرا وراوغا، وبقي كل منهما يُحيل عَلَى الآخر، فبعثوا رُسُلهم، فأكرم الرُّسُلَ، وأظهر الزّينة، وعرضَ جيشه.
قَالَ أَبُو النَّصر مُحَمَّد بْن عَبْد الجبّار: فأمر بتعبئة جيوشه وتغشية خيوله. ورتَّب العسكر سِماطين في هيئة لو رآها قارون قَالَ: يا ليت لي مثل ما أوتي محمود. فصفّ نحو ألفي غلام تُرك في ألوان الثياب، ونحو خمسمائة غلام بقُربه بمناطق الذَّهب المرصّعة بالجواهر، وبين أيديهم أربعون فيلًا من عظام الأفيلة بغواشي الديباج، ووراء السماطين سبعمائة فيل في تجافيف مشهرة الألوان، وعامّة الجيش في سرابيل قد كدت القيون وردت العيون، وأمامهم الرجال بالعُدد، وقام في القلب كالبدر في ظُلمة الدّيجور، وأذِن للرُسُل حينئذٍ، ثمّ عُدل بهم إلى الموائد في دارٍ مفروشة بما لم يُحك عَنْ غير الجنّة، ففي كلّ مجلس دُسُوت من الذَّهب من جِفان وأطباق فيها الأواني الفائقة والآلات الرائقة. وهّيأ لخاصّ مجلسه طارم قد جُمِعَتْ ألواحه وعضاداته بضباب الذَّهب وصفائحه، وفُرِش بأنواع الدّيباج المذهَّب، وفيه كُوات مضلَّعة تشتمل عَلَى أنواع الجواهر الّتي أَعْيَت أمثالها أكاسرة العجم وقياصرة الروم وملوك الهند وأقيال العرب. وحوالي المجلس أطباق ثخان من الذَّهب مملوءة من المِسْك والعنبر والعود، وأواني لم يُسمع بمثلها. ثمّ جهّز الرُّسُل.
ووقع بين الأخوين وتنافرا مدّة لسعادة الإسلام وسلطانه يمين الدّولة، وكان عَلَى مملكة خوارزم الملك مأمون بْن مأمون قد وليها بعد أخيه عليّ. فزوّجه السّلطان محمود بأخته ثمّ طلب منه أن يذكر اسمه في الخطبة معه، فأجابَ، وامتنع من الإجابة نائبه وكُبراء دولته، ولاموه، ثمّ إنّهم قتلوه غيلةً فغضب السلطان وسار بجيوشه لحربهم فالتقاهم بظاهر خوارزم فظفر بهم، فسمر جماعةً من الأمراء، واستناب على خوارزم حاجبه الكبير ألتونتاش -[23]- وصفَت لَهُ مملكة خُراسان وسجِسْتان وغَزنة وخوارزم والغور، وافتتح نصف إقليم الهند في عدّة غزوات. وكانت سلطنته بضْعا وثلاثين سنة كما سيأتي في ترجمته.