فيها قَبضوا على الطائع لله في داره، في تاسع عشر شعبان؛ وسببه أنّ أبا الحسن ابن المعلّم كان من خواص بهاء الدولة، فَحُبِسَ، فجاء بهاء الدولة وقد جلس الطائع لله في الرِّواق مُتَقلِّدًا سيفًا، فلما قَرُبَ بهاء الدولة قبّل الْأرض وجلس عَلَى كرسي، وتقدّم أصحاب بهاء الدولة فجذبوا الطائع بحمائل سيفه من سريره، وتكاثر عليه الدَّيْلَم، فلفُّوه في كساء وحُمِل في زبزب، وأُصعِد إلى دار المملكة، وشاش البلد، وقَدَّر أكثر الجند أن القبض على بهاء الدولة، فوقعوا في النهب وشُلِّح من حضر من الْأشراف والعُدُول، وقُبض على الرئيس علي بن عبد العزيز بن حاجب النُّعمان في جماعة، وصُودِروا، واحتيط على الخزائن والخَدَم، ورجع بهاء الدولة إلى داره. وأظهر أمر القادر باللَّه، وأنَّه الخليفة، ونُودِي له في الْأسواق. وكتب على الطائع كتابًا بخلْع نفسه، وأنَّه سلّم الْأمر إلى القادر باللَّه، وشهد عليه الْأكابر والأشْراف. ونفَّذ إلى القادر المكتوب، وحثّه على القُدُوم.
وشغب الدّيْلم والتُّرْك يطالبون برسم البَيْعَة، وبرزوا إلى ظاهر بغداد، وتردّدت الرُسُل منهم إلى بهاء الدولة، ومُنِعوا من الخُطْبة للقادر، ثم أرْضَوهم، فسكنوا، وأُقيمت الخطبة للقادر في الجمعة الْآَتية، وهي ثالث رمضان، وحوّل من دار الخلافة جميع ما فيها، حتى الخشب السّاج والرخام، ثم أبيحت للخاصة والعامة، وقلعت أبوابها وشبابيكها.
وجهّز مهذّبُ الدولة عليُّ بن نصر القادر باللَّه من البطائح وحمل إليه من الْآَلات والفَرْش ما أمكنه، وأعطاه طيّارًا كان عمله لنفسه، وشيّعه فلما وصل إلى واسط اجتمع الجنْد وطالبوه بالبَيْعَة، وجرت لهم خطوب، انتهت إلى أن وعدهم بإجرائهم مجرى البغداديين، فَرَضُوا، وساروا، وكان مقامه -[506]- بالبطيحة منذ يوم حصل فيها إلى أن خرج عنها سنتين وأحد عشر شهرًا، وقيل: سنتين وأربعة أشهر، عند أميرها مهذَّب الدولة.
قال هلال بن المحسّن: وجدْت الكتاب الذي كتبه القادر باللَّه:
" من عبد اللَّه أحْمَد الْإمَام القادر باللَّه أمير المؤمنين، إلى بهاء الدولة وضياء الملَّة أبي نصر ابن عَضُد الدولة، مولى أمير المؤمنين، سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يَحْمَد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، أمّا بعد، أطال اللَّه بقاءك، وأدام عزَّك وتأييدك، وأحسن إمتاعَ أمير المؤمنين بك، فإن كتابك الوارد في صُحبة الحَسَن بن محمد، رعاه اللَّه، عُرِض على أمير المؤمنين تاليا لما تقدَّمه، وشافعًا ما سبقه، ومتضمّنًا مثل ما حواه الكتاب قبله، من إجماع المسلمين قبلك بمشهد منك، على خلع العاصي المتلقّب بالطائع عن الْإمَامة، ونَزْعه عن الخلافة، لبَوَائقه المستمرّة، وسوء نيّته المدخولة، وإشهاده على نفسِه بعجزه، ونُكُوله وإبرائه الكافّة من بيعته، وانشراح صدور الناس لبيعة أمير المؤمنين. ووقف أمير المؤمنين على ذلك كلّه، ووجدك، أدام اللَّه تأييدك، قد انفردت بهذه المآثر، واستحققت بها من اللَّه جليل الْأثَرَة، ومن أمير المؤمنين سنيّ المنزلة، وعليّ المرتبة ".
وفيه: " فقد أصبحت سيف أمير المؤمنين المُبير لأعدائه، والحاظي دون غيرك بجميل رأيه، والمستبدّ بحماية حَوْزَته ورعاية رعيّته، والسّفارة بينه وبين ودائع اللَّه عنده في بريّته، وقد برزتْ راية أمير المؤمنين عن موضع الصَّليق مُتَوَجَّهه نحو سريره الذي حرسته، ومستقرّ عزّه الذي شيّدته، ودار مملكته التي أنت عِمادها ".
إلى أن قال: " فواصِل حضرةَ أمير المؤمنين بالإنهاء والمطالعة، إن شاء اللَّه، والسّلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته. وكتب لثالثة تبقى من شعبان ".
واسم القادر: أحْمَد بن إسحاق ابن المقتدر، أَبُو العباس، وأمّه تمنى مولاة عبد الواحد ابن المقتدر. وُلِد سنة ستٍّ وثلاثين وثلاث مائة، وكان حَسَنَ الطّريقة، كثير المعروف، فيه دين وخيْر.
فوصل إلى جَبُّل في عاشر رمضان، وجلس من الغد جلوسًا عامًّا، -[507]- وهُنّئ، وأنشد بين يديه الشعراء، فمن ذلك قول الرّضيّ الشريف:
شرفُ الخلافة يا بني العباس ... اليوم جدّده أَبُو العبّاس
ذا الطّوْد بقّاه الزّمان ذخيرةً ... من ذلك الجبل العظيم الراسي
وحُمل إلى القادر بعض الْآَلات المأخوذة من الطائع، واستكتب له أَبُو الفضل محمد بن أحمد ابن عارض الدَّيْلم، وجعل اسْتَدَارَه عبد الواحد بن الحسن الشِيرازي.
وفي شوّال عُقد مجلس عظيم، وحلف القادر وبهاء الدولة كلُّ منهما لصاحبه بالوفاء، وقلَّده القادر ما وراء بابه، ممّا تُقام فيه الدَّعوة.
وكان القادر أبيض، حَسَن الجسم، كَثَّ اللحية، طويلها، يخضِب. وصفه الخطيب البغدادي بهذا، وقال: كان من الدّيانة والستر وإدامة التهجُّد، وكثرة الصَّدقات، على صفةٍ اشتهرت عنه، وقد صنَّف كتابًا في الْأصول، ذكر فيه فضائل الصحابة وإكفار المعتزلة، والقائلين بخلْق القرآن.
وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني أنّ القادر كان يلبس زِي العَوَامّ، ويقصد الْأماكن المعروفة بالخير والبركة، كقبر معروف وغيره. وطلب من ابن القِزْوِيني الزّاهد أنْ يُنْفِذ له من طعامه الذي يأكله، فأنفَذَ إليه باذنجان مقلُوًّا بِخَلٍّ وباقِلاء ودِبْس وخُبْز بَيْتيّ، وشدّه في مئزره، فأكل منه، وفرّق الباقي، وبعث إلى ابن القَزْوينيّ مائتي دينار، فقبلها. ثم بعد أيام طلب منه طعامًا، فأنفذ إليه طبقًا جديدًا، وفيها زبادي فيها فراريج وفالُوذَج، ودجاجة مشويّة وفالوذجة، فتعجب الخليفة، وأرسل إليه يكلّمه في ذلك، فقال: ما تكلّفت، لما وُسِّعَ عليّ وُسَّعْت على نفسي، فتعجّب من عقله ودينه. ولم يزل يواصله بالعطاء.
وفي ذي الحجّة، يوم عيد الغدير جرت فتنة بين الرافضة وأهل باب البصْرة، واستظهر أهل باب البصرة، وخرَّقوا أعلام السَّلطنة، فقُتِل يومئذ -[508]- جماعة اتُّهموا بفعل ذلك، وصُلبوا، فقامت الهيبة، وارتدع المفسد.
وفيها حجّ بالنّاس من العراق أبو الحسن محمد بن الحسين بن يحيى العلوي، وكان أميرُ مكّة الحسن بن جعفر أَبُو الفتوح العلوي، فاتفق أن أبا القاسم ابن المغربي حصّل عند حسّان بن المفرّج بن الجرّاح الطائي، فحمله على مُبَاينة صاحب مصر، وقال: لا مَغْمَز في نسب أبي الفتوح، والصواب أن ننصبه إمامًا، فوافقه، فمضى ابن المغربيّ إلى مكّة، فأطمع صاحب مكّة في الخلافة، وسهّل عليه الْأمر، فأصغى إلى قوله، وبايعه شيوخ الحَسَنِيّين، وحسن له أبو القاسم ابن المغربي أخْذَ ما على الكعبة من فضّة وضربه دراهم.
واتّفق موت رجلٍ بجُدَّة معه أموال عظيمة وودائع، فأوصى منها بمائة ألف دينار لأبي الفتوح صاحب مكّة ليصون بها تركته والودائع، فاستولى على ذلك كلّه، فخطب لنفسه، وتسمّى بالراشد باللَّه، وسار لاحقا بآل الجرّاح الطائي. فلما قَرُب من الرملة، تلقَّتْه العرب، وقبَّلوا الْأرض، وسلّموا عليه بالخلافة، وكان متقلّدًا سيفًا زعم أَنَّهُ ذو الفِقار وفي يده قضيب، ذكر أنه قضيب رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحوله جماعة من بني عمّه، وبين يديه ألف عبد أسود، فنزل الرملة، ونادى بإقامة العدْل، والأمر بالمعروف والنَّهْي عن المُنْكَر، فانزعج صاحب مصر، وكتب إلى حسّان الطائي مُلَطَّفًا، وبذل له أموالًا جزيلة، وكتب إلى ابن عم أبي الفتوح، فولاه الحَرَمَيْن، وأنفذ له ولشيوخ بني حسن أموالًا، فقيل إنه بعث إلى حسّان بخمسين ألف دينار مع والده حسّان، وأهدى له جارية جهّزها بمال عظيم، فأذعن بالطاعة، وعرف أَبُو الفتوح الحال، فضعف وركب إلى أبي حسّان المفرّج الطائي مُستجيرًا به فأجاره، وكتب فيه إلى العزيز، فردّه إلى مكّة.
وفيها استولى بزال على دمشق وهزم متوليّها مُنِيرًا وفرق جمعه.
وفيها أقبل بسيل طاغية الرّوم في جيوشه، فأخذ حمص ونهبها، وسار إلى شيزر فنهبها، ثم نازل طرابلس مدّة، ثم رجع إلى بلاده.