فيها تقلد قضاء القضاة أبو الحسن محمد ابن أمّ شيبان الهاشمي، وعُزل ابن معروف بحكومة ابتغى فيها وجَه الله، وسأل مع ذلك الإعفاء من القضاء، فخُوطِب أبو الحسن، فامتنع، فأُلزٍم، فأجاب وشرط لنفسه شروطًا، منها أنّه لا يرتزق على القضاء ولا يخلع عليه ولا يُسام ما لا يوجبه حكم، ولا يُشفَع إليه في إيقاف حق أو فِعْل ما لا يقتضيه شَرْع. وقرر لكاتبه في كل شهر ثلاثمائة درهم، ولحاجبه مائة وخمسون درهما، وللعارض على بابه مائة درهم، ولخازن ديوان الحكم والأعوان ستمائة درهم. وركب إلى المطيع لله حتى سلّم إليه عهده، فركب من الغد إلى الجامع، فقُرئ عهده - تولى إنشاءه أبو منصور أحمد بن عبيد الله الشيرازي صاحب ديوان الرسائل - وهو: " هذا ما عهد عبد الله الفضل المطيع لله أمير المؤمنين إلى محمد بن صالح الهاشمي حين دعاه إلى ما يتولاه من القضاء بين أهل مدينة السلام مدينة المنصور، والمدينة الشرقية من الجانب الشرقي، والجانب الغربي، والكوفة، وسقي الفرات، وواسط، وكوخى، وطريق الفرات، ودجلة، وطريق خراسان، وحلوان، وقرميسين، وديار مُضَر، وديار ربيعة، وديار -[182]- بكر، والموصل، والحرمين، واليمن، ودمشق، وحمص، وجند قِنَّسرين، والعواصم، ومصر، والإسكندرية، وجُنْدي فلسطين، والأردن، وأعمال ذلك كلها، وما يجري من ذلك من الإشراف على من يختاره لنقائه من العباسيين بالكوفة، وسقْي الفرات، وأعمال ذلك، وما قلّده إيّاه من قضاء القضاة، وتصفّح أحوال الحكام، والاستشراف على ما يجري عليه أمر الأحكام في سائر النواحي والأمصار التي تشتمل عليها المملكة، وتنتهي إليها الدعوة، وإقرار من يحمد هَدْيَه وطريقته، والاستبدال بمن يذم سمته وسجيته نظرا لنجبة مكانه، واحتياطًا للخاصة والعامة، وحُنُوًّا على الملّة والذمّة عن علم بأنّه المقدّم في بيته وشرفه، المبرز في عفافه، المُزكّي في دينه وأمانته، الموصوف في ورعه ونزاهته، المشار إليه بالعلم والحِجى، المجتمع عليه في الحلم والنهى، البعيد من الأدناس، اللّبَاس من التُّقَى أجمل لباس، النقيّ الجيب، المخبور بصفاء الغيب، العالم بمصالح الدنيا، العارف بما يفيد سلامة العُقْبَى، آمره بتقوى الله فإنها الْجُنّة الواقية، وليجعل كتاب الله في كل ما يعمل فيه رويته، ويرتب عليه حكمه وقضيّته، إمَامَه الذي يفزع إليه، وعماده الذي يعتمد عليه، وأنْ يتّخذ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منارًا يقصده، ومثالًا يتبعه، وأن يُراعي الإجماع، وأن يقتدي بالأئمة الراشدين، وأن يُعْمِل اجتهاده فيما لا يوجد فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع، وأن يُحْضِر مجلسًه من يستظهر بعلمه ورأيه، وأن يسوّي بين الخصمين إذا تقدّما إليه في لَحْظهِ وَلَفْظِهِ، ويُوَفّي كُلا منهما من إنصافه وعدله، حتى يأمن الضعيف من حيفه، وييأس القوي من ميله، وآمره أن يشرف على أعوانه وأصحابه، ومن يعتمد عليه من أمنائه وأسبابه، إشرافًا يمنع من التخطّي إلى السيرة المحظورة، ويدفع عن الإشفاق إلى المكاسب المحجورة ". -[183]-
وذكر من هذا الجنس كلامًا طويلًا.
وفيها قُلَّد أبو محمد عبد الواحد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمي نقابة العباسيين، وعُزل أبو تمام الزينبي.
وفيها ظهر ما كان المطيع لله يستره من مرضه وتعذُّر الحركة عليه، وثِقَل لسانه بالفالج، فدعاه حاجب عز الدولة الحاجب سبكتكين إلى خلع نفسه، وتسليم الأمر إلى ولده الطايع لله، ففعل ذلك، وعقد له الأمر في يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة، فكانت مدّة خلافة المطيع تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة وعشرين يومًا. وأثبت خلْعه على القاضي أبي الحسن ابن أمّ شيبان بشهادة أحمد بن حامد بن محمد، وعمر بن محمد، وطلحة بن محمد بن جعفر الشاهد.
وقال أبو منصور بن عبد العزيز العُكْبري: كان المطيع لله بعد أن خُلع يسمّى الشيخ الفاضل.
قلت: وكان هو وابنه مستضعفين مع بني بُوَيْه، ولم يزل أمر الخلفاء في ضَعْفٍ إلى أن استخلف المقتفي لله فانصلح أمر الخلافة قليلًا. وكان دسْت الخلافة لبني عبيد الرافضة بمصر أميز، وكلمتهم أنفذ، ومملكتهم تناطح مملكة العبّاسيين في وقتهم، فالحمد لله على انقطاع دعوتهم.
وفيها بلغ ركب العراق سَمِيراء فرأوا هلال ذي الحجّة، وعرفوا أن لا ماء في الطريق بين فَيْد إلى مكة إلّا ما لا يكفيهم، فعدلوا مساكين إلى بطن نخل يطلبون مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوها يوم الجمعة سادس ذي الحجّة مجهودين، فعرفوا فِي مَسْجِدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أميرهم أبو منصور محمد بن عمر بن يحيى العلوي، وقدم الركب الكوفة في أول المحرم من سنة أربعٍ، فأقاموا بالكوفة أيامًا لفساد الطريق، ثم جمعوا لمن خفرهم.
وأمّا مكة والمدينة فأقيمت الخطبة والدعوة بالبلدين لأبي تميم المُعٍزّ العُبَيْدي، وقُطِعت خطبة الطائع لله في هذا العام من الحجاز ومصر والشام والمغرب، وكان الرفض ظاهرا قائما في هذه الأقاليم، وفي العراق، والسنة خاملة مغمورة، لكنها ظاهرة بخراسان وأصبهان، فالأمر لله. -[184]-
وفيها كان الحرب شديدًا بينهم وبين الأعراب القرامطة الذين ملكوا الشام، وحاصروا المعزّ بمصر مدة، ثم ترحلوا شبه منهزمين ودخلوا إلى بلاد الحَسَا والقطيف.
وقدم إلى الشام نائب المعز.