في أولها: قبض المقتدر على وزيره أبي علي الخاقاني، وعلى ابنيه، وأبي الهيثم بن ثوابة.
وكان قد مضى بليق المؤنسي في ثلاث مائة راكب إلى مكة لإحضار عليّ بن عيسى للوزارة، فقدم في عاشر المحرم، فَقُلِّدَ وَسُلِّمَ إليه الخاقاني ومَن معه فصادرهم مصادرةً قريبة، ورفق بهم، وعدل في الرعية، وعفَّ عن المال، وأحسن السّياسة، وأتَّقى الله، وأبطل الخمور. قاله ثابت بن سنان، فقال: وحدَّثني بعد عزله من الوزارة قال: قال لي ابن الفُرات بعد صرفي وتوليته: أبطلت الرسوم، وهدمتَ الارتفاع. فقلت: أيُّ رسم أبطَلْتَ؟ قال: المكْس بمكّة. فقلت: أهذا وحده أبطَلْتُ؟ قد أبطَلْتُ ما أرتفاعه في العام خمس مائة ألف دينار، ولم أستكثر هذا القدر في جنب ما حَطَطْتَهُ عن أمير المؤمنين من الأوزار. ولكن أنظر مع ما حططت إلى ارتفاعي وارتفاعك. ففرق الخادم بيننا قبل أن يجيب.
وفي صَفَر سألَ عليُّ بن عيسى أمير المؤمنين أن يقلّد القضاء أبا عُمَر محمد بن يوسف وعرَّفه فضله ومحلّه، فقلّده قضاء الجانبين. وبقي على قضاء مدينة المنصور أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البُهْلُول.
وفيها: ركب المقتدر من داره إلى الشّمّاسّية، وهي أوّل رَكْبه ظهر فيها للعامّة.
وفيها: أُدْخلَ حسين بن منصور الحلاج مشهورًا على جَمَلٍ إلى بغداد، وكان قد قُبض عليه بالسوس، وحُمِل إلى عليّ بن أحمد الراسبيّ، فأقدمه إلى الحضرة، فَصُلِبَ حيًّا، ونُودي عليه: هذا أحد دُعاة القرامطة فاعرفوه. ثم حُبِس في دار السّلطان. وظهر عنه بالأهواز وببغداد أنّه أدّعى الإلهيّة، وأنّه -[8]- يقول بحلول اللّاهوت في الأَشراف، وأنّ مكاتباته تُنْبِئ بذلك.
وقيل: إن الوزير عليّ بن عيسى أحضره وناظَرَه، فلم يجد عنده شيئًا من القرآن ولا الحديث ولا الفقه، فقال له: تَعَلُّمكَ الوضوء والفرائض أوْلى بك من رسائل لا تدري ما فيها - وكان قد وَجدوا في منزله رقاعًا فيها رموز - ثم تدَّعي، وَيْلَكَ، الإلهيّة، وتكتب إلى تلاميذك: " من النّور الشَّعشعانيّ "! ما أحْوَجك إلى الأدب. وحبُس فاستمال بعضَ أهلِ الدّار بإظهار السنة، فصاروا يتبرَّكون به، ويسألونه الدّعاء. وستأتي أخباره فيما بعد.
وفيها: قلد أبو العباس ابن المقتدر أعمالَ مصر والمغرب، وله أربعُ سِنين، واستخلف له مؤنس الخادم. وقلد علي ابن المقتدر الرِّيَّ ونواحيها، وأسْتُخْلٍفَ له عليها.
ونفذ محمد بن ثَوَابة الكاتب إلى الكوفة، وَسُلِّمَ إلى إسحاق بن عِمَران، فاعتقله حتى مات.
وفيها: ورد الخبرُ أنّ غلمان أحمد بن إسماعيل قتلوه على نهر بَلْخ، وقام ابنه نصر بن أحمد، فبعثَ إليه المقتدر عهده بولاية خُراسان.
وفيها: قُتِلَ أبو سعيد الْجَنَّابيّ القَرْمطيّ المتغلّب على هَجَر؛ قتله غلامه الخادم الصِّقْلَبيّ، لكونه أراده على الفاحشة في الحمام، قتله ثم خرج فدعى رجل من رؤساء أصحابه وقال: السيد يستدعيك، فلما دخل قتله. قال: وما زال يفعل ذلك بواحدٍ واحدٍ حتّى قتل أربعة من الأعيان، ثمّ دعا بالخامس، فلمّا رأى القتلى صاح، فصاح النّساء، واجتمعوا على الخادم فقتلوه.
وكان أبو سعيد الْجَنِّابيّ قد هزم جيوش المعتضد، ثمّ وادعه المعتضد القتالَ فكفِّ عنه: وبقي بهَجَر من ناحية البرّيّة إلى هذا الوقت.
قال ثابت: وكان عليّ بن عيسى أشار بمكاتبة أبي سعيد الحَسَن بن بهرام الْجَنَابيّ والإعذار إليه، وحضّه على الطّاعة، ووبّخه على ما يُحكى عنه وعن أصحابه مِن ترك الصّلاة والزّكاة واستباحة المحرِّمات؛ ثمّ توعّده وتهدّده. فبلغ الرُّسُلَ وهم بالبصرة مقتله، فكتبوا إلى الوزير، فرد عليهم: أَنْ سِيروا إلى مَن قامَ بعده. فساروا وأوصلوا الكتابَ إلى أولاده، فكتبوا جوابه، فكانَ: للوزير -[9]- أبي الحسن مِن إخوته، سلامُ على الوزير، فإنا نَحْمد إليه الله الذّي لَا إله الّا هو، ونسأله أن يصلّي على سيّدنا محمد. وفيه: فأمّا ما ذُكر عنّا من انفرادنا عن الجماعة، فنحن، أيّدك الله، لم نَنْفرد عن الطّاعة والجماعة، بل أفرِدْنا عنها، وأُخْرِجْنا من ديارنا، واستحلّوا دماءَنا، ونحنُ نشرح للوزير حالنا: كان قديمُ أمرنا أنّا كنّا مستورين مُقْبلين على تجارتنا ومعايشنا، نُنَزَّه أنفسنا عن المعاصي، ونحافظ على الفرائض، فَنَقَمَ علينا سُفهاء النّاس وفُجّارهم ممّن لَا يُعْرَف بِدِين، وأكثروا التشنيع علينا حتى اجتمع جميع النّاس علينا، وتظاهروا وشهدوا علينا بالزُّور، وأنّ نِساءَنا بيننا بالسَّويّة، وأنّا لَا نحرِّم حرامًا، ولا نحل حلالًا، فخرجنا هاربين، ومَن بقيَ منّا جعلوا في رقابهم الحبال والسّلاسل، إلى أن قال: فأجْلونا إلى جزيرة، فأرسلنا إليهم نطلب أموالنا وحُرمنا، فمنعوناها، وعزموا على حربنا، فحاكمناهم إلى الله، وقال تعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}. فنصرنا الله عليهم. وأمّا ما أدُّعى علينا من الْكُفْرِ وترك الصّلاة فنحن تائبون مؤمنون باللَّه. فكتب الوزير يعدهم الإحسان.
وفيها: سار المهديّ صاحب إفريقيّة يريد مصر في أربعين ألفًا من البربر في البر والبحر، ونزل لِبْدَة، وهى من الإسكندريّة على أربعة مراحل. وكان بمصر تَكين الخاصّة، ففجّر النّيل، فحال الماء بينهم وبين مصر.
قال المُسَبّحيّ: فيها كانت وقعة بَرْقَةَ، وكان عليها المنصور، فسلّمها وانهزم إلى الإسكندرية.
وفيها: سار أبو داود حَبَاسَة بن يوسف الكتاميّ البربريّ في جيشٍ عظيم قاصدًا إلى مصر مقدّمةً بين يدي القائم محمد، فوصل إلى الجيزة، وهَمّ بالدُّخول إلى مصر فغلط المخاضة ونُذِر به، فخرج إليه عسكر، فحالوا بينه وبين الدخول إلى مصر، وأعانهم زيادة النيل، فردّ إلى الإسكندرية، فَقَتَلَ وأفسدَ. ثم سار جيش المقتدر إلى بَرْقَةَ، وجرت لحباسة ولهم حروب.
وقلَّد المقتدرُ مصرَ أبا عليّ الحسين بن أحمد، وأبا بكر محمد بن عليّ، المادرائيّين، وأضاف إليهما جُنْدَ دمشق وفلسطين، فسارا إلى مصر، فكان بينهم وبين الفاطميّ وقْعات. ثم رجع إلى بَرْقة، وأقام المادرائيّ بمصر، -[10]- وملك الفاطميّ الإسكندرية والفيّوم، ثم ترك ذلك وردّ.
وقلد المقتدرُ حمصَ وقنّسرين والعواصم أبا القاسم علي بن أحمد بن بسطام.
وفيها: تُوُفّي عليّ بن أحمد الرّاسبيّ أمير جُنْدَيْسابور والسُّوس، وكان شجاعًا جوادًا، تُوُفّي في جُمَادَى الآخرة، وخلف من الذَّهَب ألف ألف دينار، وألف فرس، وألف جَمَلٍ، وغير ذلك.
وفيها: تُوُفّي القاضي عبد الله بن عليّ بن محمد بن أبي الشوارب. وتُوُفّي بعده بثلاثة وسبعين يومًا ابنه القاضي محمد المعروف بالأحنف.