112 - إِسْمَاعِيل بْن بُلْبُل، الوزير أبو الصَّقْر الشَّيبانيّ. [الوفاة: 271 - 280 ه]
كاتب بليغ، شاعر محسن، جواد ممدح. وزر للمعتمد سنة خمسٍ وستيّن ومائتين، بعد الْحَسَن بْن مخلد، ثُمَّ عُزِل بعد شهر؛ ثُمَّ وزر ثانيًا، ثُمَّ عُزِل، ثمّ وزر ثالثا عند القبض على صاعد بن محمد الوزير سنة اثنتين وسبعين. وكان واسع النَّفس، وظيفته فِي كلّ يوم سبعون جَدْيًا، ومائة حمل، ومائة رطْل حَلْواء. ولم يزل على وزارته إِلَى أن ولي العهد أَحْمَد بْن الموفَّق، فقبض عليه وقيده، وعذبه حَتَّى هلك فِي صفر سنة ثمانٍ وسبعين.
قال عُبَيْد الله بن أَحْمَد بن أبي طاهر: وقع اختيار الموفَّق لوزارته على أبي الصَّقر، فاستوزر منه رجلًا قلّ ما جلس مجلسه مثله كفاية للمهمّ، واستقلالًا بالأمور، وإمضاءً للتدبير، فيما قلْ وجلْ فِي أصحْ سُبُله وأَعْوَدِها بالنَّفع في عواقبه، وأحوطها لأعمال السلطان ورعيتّه، وأوفاها بطاعته، مع رفعه قدرٍ الأدب وأهله، وتجديده ما درس من أحوالهم قبله، وبذله لهم كرائم ماله، مع شجاعة نفسه، وعلو همته، وصِغَر مقدار الدُّنيا عنده، إلّا ما قدّمه لِمَعَاده، مع سعة حلمه وكظْمه، وإفضاله على من أراد تَلَفَ نفسه.
قال أبو عليّ التنَّوخيّ: حدثنا أبو الحسين عبد الله بن أحمد قال: حدثنا سُلَيْمَان بْن الْحَسَن أبو القاسم قَالَ: قَالَ أبو العبّاس ابن الفُرات: حضرت مجلس إِسْمَاعِيل بْن بُلْبُل، وقد جلس جلوسًا عامًا. فدخل إليه المتظلّمون والنّاس عليّ طبقاتهم. فنظر فِي أمورهم، فَمَا انصرف أحدٌ منهم إلّا بولايةٍ، أو صلةٍ، أو قضاء حاجة، أو إنصاف. وبقي رَجُل، فقام إليه من آخر المجلس يسأله تسييب إجارة ضيعته، فقال: لأنّ الأمير، يعني الموفَّق، قد أمرني أن لا أسيّب شيئًا إلّا عن أمره، وأنا أكتب إليه فِي ذلك. فراجعه الرجل وقَالَ: مَتَى تركني الوزير وأخّرني فَسد حالي. فقال لعبد الملك بن -[517]- محمد: اكتُب حاجته فِي التّذْكرة. فولّى الرجل غير بعيد، ثُمَّ رجع فقال: أيأذن الوزير؟ قَالَ: قُلْ. فأنشأ يقول:
ليس فِي كلّ دولةٍ وأوانِ ... تتهيَّا صنائع الإحسانِ
وَإِذَا أمْكَنَتْكَ يومًا من الدّهرِ ... 5 فبادِرْ بها صُروفَ الزْمانِ.
فقال لي: يا أَبَا الْعَبَّاس اكتُب له بتسييَّب إجارة ضيعته السّاعة. وأمر الصَّيرفيّ أن يدفع له خمسمائة دينار.
ويُروى أنْ إِسْمَاعِيل بْن بُلْبُل كان جالسًا وعليه دُرّاعة منسوجة بماء الذَّهب لها قيمة، وبين يديه غلام معه دَوَاة. فطلب منه مدّة، فنقط الغلام على الدُّرّاعة. فجزع، فقال: يا غلام لا تجزع، فَإِن هذه الدراعة من هذه. وأنشد:
إذا ما المِسْكُ طيَّبَ رِيحَ قومٍ ... كفاني ذاك رائحةُ المِدادِ
فَمَا شيءٌ بأحَسَنَ من ثيابٍ ... على حافاتِها حُمَمُ السَّوَادِ.
وقَالَ أبو عليّ التَّنُوخيّ: حدَّثني أبو الْحُسَيْن بْن عيّاش قال: أخبرني من أثق به أنّ إِسْمَاعِيل بْن بلبل لمّا قصده صاعد لزم داره، وكان له حملٌ قد قارب الوضْع، فقال: اطلبوا لي منجّما يأخذ مولده، فأُتي به، فقال له بعض من حضر: ما تصنع بالنّجوم؟ ها هنا أعرابيّ عائف ليس فِي الدُّنيا أحذق منه. فقال: يحضر. فأسمّاه الرجل، فَطُلِبَ، فَلَمَّا دخل قَالَ له إِسْمَاعِيل: تدري لِمَ طلبتك؟ قَالَ: نعم. وأدار عينه فِي الدّار، فقال: تسألني عن حَمْل. فعجب منه، وقَالَ: فَمَا هُوَ؟ فأدار عينه وقَالَ: ذَكَر. فقال للمنجم: ما تقول؟ قَالَ: هَذَا جهل. قَالَ: فبينا نَحْنُ كذلك إذ طار زنبورٌ على رأس إِسْمَاعِيل وغلام يذّب عنه، فقتله. فقام الأعرابيّ فقال: قتلت والله المزنَّر ووُلِّيت مكانه، ولي حقّ البشارة، وجعل يرقص. فنحن كذلك، إذ وقعت الصيحة بخبر الولادة، وَإِذَا هُوَ ذَكَر. فسرَّ إِسْمَاعِيل بِذَلِك، وَوَهَبَ للأعرابيّ شيئًا. فَمَا مضى عليه إلّا دون شهر، حَتَّى استدعاه الموفَّق، وقلَّده الوزارة، وسلَّم إليه صاعدًا. فكان يُعَذِّبه إِلَى أن قتله. ثُمَّ -[518]- طلب الأعرابيّ فسأله: من أَيْنَ قَالَ ما قال؟ فقال: نحن إنّما نتفاءل ونزجر الطَّير ونعيف بما نراه. فسألتني أولًا لأيّ شيء طُلِبتُ، فتلمحّت الدّار، فوقَعَتْ عيني على برّادة عليها كيزان معلَّقة، فقلت: حمل، فقلت لي: أصبت. ثُمَّ تلمّحْتُ فرأيت فوقها عصفورا ذكرا فقلت: ذكر، ثمّ طار الزُّنبور عليك، وهو مخصّر، والنّصارى يتخصَّرون بالزّنابير. والزُّنبور عدوٌّ أراد أن يلسعك، وصاعد نصراني الأصل، وهو عدوك. فزجرت أن الزُّنبور عدوّك، وأنّ الغلام لمّا قتله أنّك ستقتله. قَالَ: فوهب له شيئًا صالحًا وصرفه.
وقال جحظة:
بأبي الصقر علينا ... نِعَمُ الله جليلةٌ
ملكٌ فِي عينه الدُّنـ ... ـيا لراجيه قليله
فوصله بمائتي دينار.
وقال عبيد الله بن أبي طاهر: أنشدني جحظة قال: أنشدني أبو الصَّقر إِسْمَاعِيل بْن بُلْبُل لنفسه:
ما آن للمعشوق أن يُرْحَما ... قد انْحَلّ الجسمُ وأبكى الدّما
ووكَّل العين بتسهيدها ... تفديه نفسي طالما حكّما
وسنة المعشوقِ أنْ لا يرى ... فِي قتل من يعشقه مأثما
لو راقب الله شفى علتي ... فالعدل أن يبرئ من أسقما.
وُلِدَ إِسْمَاعِيل بْن بُلْبُل سنة ثلاثين ومائتين؛ قاله الصُّوليّ. وقال: رأيته مرّات، فكان فِي نهاية الجمال، وتمام القدّ والجِسْم، فُقِبض عليه فِي صفَرَ سنة ثمانٍ وسبعين، وكُبِّلَ بالحديد، وأُلْبِسَ جبَّة صوف مغموسة فِي الدِّبْس، وماء الأكارع، وأُجْلِسَ فِي مكانٍ حارّ، وعُذِّب بأنواع العذاب، فمات لِلَيْلَةٍ بقيت من جُمادَى الأولى.
قال عُبَيْد الله بن أَحْمَد بن أبي طاهر: حدثت عن إِبْرَاهِيم الحربيّ، أو غيره، أنّه رَأَى ابنُ بُلْبُل فِي المنام، فَقِيلَ: ما فعل الله بك؟ قَالَ: غفر الله لي بما لقيت، ولم يكن الله ليجمع عليَّ عذاب الدّنيا والآخرة. -[519]-
قال أبو عليّ التّنوخيّ: حدَّثني أبي، قال: أخبرني جماعة من أَهْل الحضرة أنَّ المعتضد أمر بإسماعيل بْن بُلْبُل، فاتّخذ له تَغارًا كبيرا، وملئ إسفيداجا حيًّا وبلّه، ثُمَّ جعل رأس إِسْمَاعِيل فِيهِ إِلَى آخر عُنُقه وبعض صدْره، ومسك عليه حتّى جمد الإسفيداج عليه، فلم تزل روحه تخرج بالضراط من استه حَتَّى مات.