بطليطلة وبالغ في ذلك بما يناسب ما بلغت إليه دولتهم من البذخ والترف، وهو الإعذار الذنوني, ضرب أهل المغرب به المثل وفاخروا به المشارقة في عرس بوران بنت الحسن بن سهل التي بنى بها المأمون العباسي، وهو من أكبر الاحتفالات التي حفظها التاريخ.
ذلك طرف من تهافت الأندلسيين في تقليد مشاهير العراقيين، وقد بلغوا من ذلك أنهم لما وفد زرياب المغني تلميذ إسحاق الموصلي على عبد الرحمن بن الحكم ورأوا من ظرفه وفنون أدبه ما رأوا، اتخذه خواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه في اللباس والفرش والطيب والطعام، ثم امتثلهم عامة الناس. وقد ذكر من ذلك صاحب "نفح الطيب" أشياء قال إنها صارت إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبة إليه معلومة به، فكأن عربية الأندلسيين كانت صغيرة في أنفسهم لنزولها عن العربية العراقية بالمنشأ فهم يحققونها دائمًا بالتقليد؛ ويتثبتون من بقاء قدمها بهذا الجديد، ولا جرم فقد كان أصل حضارتهم أمويا؛ لأن أول من سن سنن الآداب وأقام حالة الملك بالأندلس هو عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة 172هـ فلء بني أمية بالشام، وكان يسميه عدوه أبو جعفر المنصور العباسي: صقر قريش؛ لرقي همته وبعد مطمحه، وقد طرز ثوب ملكه حفيده الحكم بن هشام فحل بني أمية المتوفى سنة 206هـ، فكان أول من جند الأجناد واتخذ العدة، وأول من جعل للملك بأرض الأندلس أبهة واستعد بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف، منهم ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل.
عربية الأندلس:
كان أول احتلال طارق بن زياد لأرض أندلسية في سنة 92هـ، وبعد أن ضرب فيها قليلًا رحل إليها مولاه موسى بن نصير فدخلها في سنة 93هـ وافتتح جانبا منها ثم قفل عنها سنة 95هـ، وتتابعت الولاة والفتوح بعد ذلك مما ليس في هذا الكتاب موضع بسطه؛ غير أنه لما استتم الفتح وعصفت ريح الإسلام، صرف أهل الشام وغيرهم من العرب همهم إلى الحلول بها، فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم، وهم بدء تاريخ الأدب فيها، فكان منهم القبائل المختلفة من العدنانية والقحطانية1 ولم يتركوا في الأندلس عاداتهم المشرقية من الغزو والحروب، فطرأت بذلك الفتن بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب من المضرية واليمانية، حتى كان زمن الداخل في سنة 138هـ، ولم يزل أولئك العرب يتميزون بالعمائر والقبائل والبطون والأفخاذ إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك سلطنة الأندلس سنة 366هـ وقصد بذلك تشتيتهم وقطع التحامهم وتعصبهم في الاعتزاء، وقدم القواد على الأجناد، فيكون في جند القائد الواحد فرق من كل قبيل، فانحسمت بما فعل مادة الفتن بالأندلس التي كانت تثيرها تلك الجاهلية الرقيقة.
وقلما تجد في الأندلسيين شاعرًا مفلقًا أو كاتبًا بليغًا أو عالمًا ضليعًا ونسبه في قبيلة من تلك القبائل العربية، فكان يحيى الغزال أول شعراء الأندلس الفلاسفة من بني بكر بن وائل، وكان يوسف بن هارون الرمادي معاصر المتنبي من كندة، وأبو بكر المخزومي هجاء الأندلس من بني مخزوم، وكذلك