كما مدحت مخزوم، ولم يتهيأ من الشاهد والمثل لمادح في أحد من العرب ما تهيأ في بني بدر.
ولما دجا الإسلام وتحضرت الدولة واستأصلت الفتن أهل الطبع الشعري من العرب، انفرد بالشعر جماعة هم الذين اتصلوا بدولة الذهب "الأمويين" فاستقلت طريقة المديح من يومئذ وأطاله الشعراء، وقد أجمعوا على أن كثيّرًا أول من فعل ذلك "ص62 ج1: العمدة" كما أن جريرًا هو أول من استن إطالة الهجاء وتقصير الممادحة، قال: فإنه ينسى أولها ولا يحفظ آخرها "ص103 ج2: العمدة".
وقد نصوا على أن أمدح الناس في طبقة الجاهلية والإسلاميين زهير والأعشى ثم الأخطل وكثير "ص104 ج2: العمدة" أما المحدثون فقل منهم من لا يحترف المديح ويجعله عمود شعره وموضع كده وإجادته، وقد جرأهم على ذلك جود الخلفاء والأمراء ورغبتهم في اصطناعهم وتسنية الجوائز لهم من أجل ذلك، ولا أعجب من أن يدخل الحيص بيص الشاعر المتوفى سنة 574هـ على خالد القسري أحد أمراء الدولة الأموية فيقول له: إني مدحتك ببيتين قيمتهما عشرة آلاف درهم فأحضرها حتى أنشدهما، فيحضر خالد الدراهم ثم ينشد الحيص بيص قوله:
قد كان آدم قبل حين وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء!
فيدفع إليه خالد الدراهم ويأمر أن يضرب أسواطًا وينادى عليه: هذا جزاء من لا يعرف قيمة شعره، ثم يقول له: إن قيمتها مائة ألف "ص204 سرح العيون"، وخالد هذا هو الذي كان يجلس للشعراء في يوم معين ويجيزهم فيه، وهو أول من فعل ذلك، وقد حذا حذوه الخليفة المهدي العباسي، ولكنه لم يقصر اتخاذ الأيام على الشعراء، بل اتخذ أيامًا لأرباب الصناعات والغايات؛ وكان الوليد بن يزيد بن خلفاء بني أمية أول من تخرق في البذل للشعراء، فعد أبيات الشعر وأعطى على كل بيت ألف درهم "ص148 ج17: الأغاني" فلما جاء المهدي من خلفاء العباسيين وصل مروان بن أبي حفصة بمائة ألف درهم على قصيدته التي مطلعها:
طرقتك زائرة فحي خيالها
يعارض بها قصيدة للأعشى؛ وكذلك كان يعطيه الرشيد؛ وقد كثر الشعراء في أيامه فكان ببابه منهم من لم يجتمع لأحد قبله -وسنذكر فحولهم لمناسبة تأتي في بحث الأدب الأندلسي- وضاقت بهم بغداد فاضطروا إلى تقديرهم بالاختبار وترتيبهم في الجوائز؛ فعهد يحيى بن خالد بذلك إلى شاعره أبان اللاحقي "ص73 ج20: الأغاني"؛ وكان ذلك عهد البرامكة وهم من هم؛ فقد نال شاعرهم أبان اللاحقي على قصيدة واحدة فيهم مثل ما ناله مروان من الرشيد كل عمره "ص73 ج20: الأغاني"؛ وأعطى المتوكل حسين بن الضحاك ألف دينار عن كل بيت من إحدى قصائده؛ وهو أول من أعطى ذلك "ص194 ج6: الأغاني"، ولم يساو هؤلاء في ذلك غير الأندلسيين -وسنلم بشيء من خبرهم في موضعه- ولو ذهبنا نتتبع تاريخ الجوائز ونستقصي مقاديرها للزمتنا لذلك مئونة في التأليف وكلفة في الجمع؛ لأنها مع تاريخ الشعر في كل عصر؛ وقد كان من الشعراء من يتراجع