أما حالة الإنشاد فإن شعراء العرب إنما كانوا يتحققون بجهارة الصوت ووضوح المخرج ونفض الكلام نفضًا، ولا يخلون ذلك من الترنم على اللحن الذي يتسمح به الطبع؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا من أوزان الموسيقى الفارسية والرومية ولا الغناء الرقيق، وليس بينهم اختلاف إذا أرادوا الترنم ومد الصوت إلى الفصل "ص239 جزء 2: العمدة".
ولما شاع الغناء بعد الإسلام ووضعت قواعده صار تلحين الشعر مقصورًا على ما يغنى به منه في بعض أبيات من الرقائق إلا ما كان في بعض شعراء الأندلسيين، وسيأتي ذلك في موضعه.
ثم بقي الإنشاد جاريًا مجراه الأول، لا يتأثر إلا بما يكون في المنشد من الزهو واهتزاز العطف، كما كان يفعل البحتري، فإنه كان إذا أنشد اهتز ونظر في عطفيه وطرب طربًا بينًا، وربما أقبل على جلسائه فقال: ما لكم لا تعجبون؟ وكان مثل هذا وأكثر منه في جملة من الشعراء، إلا أننا لم نقف على أن الإنشاد كان تمثيلًا صحيحًا وإن خالطه الزهو والعجب الثقيل، إلا فيما ذكره الصاحب بن عباد -في كتابه المعروف بالروزنامجة- في وصف إنشاد أبي الحسن علي بن هارون بن المنجم، قال يخاطب أستاذه ابن العميد: "دعاني الأستاذ أبو محمد فحضرت وابنا المنجم في مجلسه وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد لأحضره فأنشدا قعودًا وجودا بعد تشبيب طويل وحديث كثير، فإن لأبي الحسن رسمًا أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته.... يبتدئ فيقول ببحة عجيبة بعد إرسال دموعه وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه من جؤذر غلامه منديل عبراته: والله، والله ... إلخ "ص284 ج2: يتيمة الدهر".
[ولعل فعل أبي الحسن هذا على بساطته أول ما عرف من صنعة التمثيل في الإسلام، فإن الأصل في التمثيل على ما حققه علماء النفس هو تأدية المراكز العصبية المحركة للوظيفة العضوية؛ لأن الأعصاب الممتدة من ظاهر الجسد إلى مراكز الجهاز العصبي، وكذلك هذه المراكز نفسها والأعصاب الممتدة منها إلى العضل، تكون جميعها آلة واحدة علائق أجزائها بعضها ببعض عضوية آلية، فمتى حركت من أي موضع تسرد سائر أجزاء وظيفتها الآلية سردًا.
وهم بذلك يحققون وجود ارتباط قوي بين الصور الذهنية والحركات العضلية، ويثبتون تفاعل الصور في الحركات والحركات في الصور.
فإذا مثلت هيئة الحزين، أي: الحركات التي تبدو بها تلك الحالة النفسية وهي الحزن، وحركت العضلات الخاصة بها من الإطراق والدمع، أثرت هذه الحركات فيك حتى لتحزن حقيقة، وبالعكس