بقلم محمد سعيد العريان
بسم الله الرحمن الرحيم
قلت عن طريقة الرافعي في الكتابة ما وسعني أن أعرفه بنفسي حين كنت أكتب له، فقد أملى علي أكثر من مائة مقالة كنت شاهده فيها إذ يلقى الوحي، ويهذب الفكرة، ويرتب المعاني، ويتألف الألفاظ، حتى تفصل عنه المقالة إلى نفس قارئها كما هي في نفسه1.
وأحسب أن طريقته العامة في كل ما كتب من المقالات هي ما وصفت عن عيان وملاحظة، ولكن لم يتهيأ لي أن أشهده حين يؤلف في موضع من موضوعات العلم، مما يقوم على التتبع، والاستقراء، وتقليب الصحائف، وبعث الدفائن، والارتفاق إلى الكتب، والاستعانة بما انتهى إليه السابقون من حقائق العلم ونتائج البحث والروية، ثم التهدي من ذلك إلى رأي ينتهي بمقدماته إلى نتيجة.
وأنا قد قرأت الجزء الأول من كتاب تاريخ آداب العرب منذ بضع عشرة سنة، وألممت منه بما ألممت، واهتديت به ما اهتديت؛ ثم عدت إلى نفسي أسائلها: أين ومتى اجتمع لمؤلفه هذا القدر من المعارف في شئون العرب والعربية فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟
وظل هذا السؤال قائمًا في نفسي زمنًا وما أزال من مطالعاتي في الأدب القديم أقع على شيء بعد شيء في صفحات متفرقة من كتب عدة ينسي آخرها أولها من تباعد الزمان بينها، وكلها مما اجتمع للرافعي في كتابه، وكان ذلك يزيدني عجبًا وحيرة ... وهممت أن أسأل الرافعي مرة، ولكني لم أفعل؛ وهممت أن أعرف بنفسي فلم أبلغ، ثم عزوت ذلك إلى ذاكرة الرافعي وسرعة حفظه؛ وقلت: متفرقات قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظته، فلما هم أن يؤلف كتابه أمدته الذاكرة بما وعت منها، وكان مستحيلًا عليه أن يجمعها لو لم تجتمع له من ذات نفسها، واطمأننت إلى هذا الاستنتاج ونسبت إليه عدم ذكر الرافعي للمراجع التي استعان بها في ذلك الكتاب؛ لأنه يروي عن ذاكرته! ثم قرأت له بحثه في "الرواية والرواة"؛ فإذا هو يتحدث عن أثر الحفظ في مؤلفات العلماء، وينادي بإحياء هذه السنة، سنة حفظ العلم واستظهار كتبه2؛ فتأكد لي ما رأيت، وكان وهمًا من الوهم عرفت حقيقته فيما بعد